خواطر حول الإلحاد
د/منى زيتون
مُستل
من كتابي "الإلحاد والتطور.. أدلة كثيرة زائفة"
الأحد أول
نوفمبر 2015
http://www.arabpens.com/2015/11/blog-post_1.html
نقاش
جمعني بباحثة مغربية، كانت تعد أطروحتها لنيل درجة الإجازة الجامعية (الليسانس) في
الدراسات الشرعية في موضوع (الإسلام ومشكلة الشباب: الإلحاد نموذجًا)، طلبت
مشورتي، وأردت أن أشارككم ببعض أفكاري التي طرحتها في نقاشي معها حول موضوعها.
جاء في "جامع بيان
العلم وفضله" لابن عبد البر (ج2، ص984) (رقم 1878) قال علي بن أبي طالب رضي
الله عنه وكرّم وجهه لكميل بن زياد النخعي: "الناس ثلاثة: فعالم رباني،
ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم
يلجأوا إلى ركن وثيق"أهـ. وأحد مشاكلنا الرئيسية –من وجهة نظري- أن علماء
عصرنا يصرون على أن الناس إما عالم أو عامي، ولا يعترفون بالفئة التي تتوسطهما،
وهم المتعلمون على سبيل النجاة. هذا يجعل علماؤنا يتعاملون مع أستاذ الجامعة في أي
تخصص غير ديني تعاملهم مع أي عامي لا يحسن القراءة، ويرفضون أي رؤية تصدر عنه!
بينما في زمن ليس منا ببعيد كان العقاد وأحمد أمين وأمثالهما يكتبون ويرحب برؤاهم
رجال الدين.
ولأجل
ذلك فإن الجمود الديني ورفض أي اجتهاد جديد معتبر، وإن صدر ممن لديه القدرة عليه،
كان له دوره في ظهور الإلحاد؛ ليس لأن الإلحاد يقوم بالفعل على أساس عقلي منطقي،
بل لأنه أفسح المجال للمتهافتين وكل من في قلبه مرض ليجد ما يتكلم فيه، وينكر من
خلاله وجود الله ورسالة الإسلام.
ولعلها
ليست إضافة جديدة مني أن أقول إن الإلحاد لا ينطلق من منطق سليم، بل من رغبة نفسية
في الإلحاد. فمن المنطقي أن من تواجهه مشكلة في دين ما، ربما كان الأولى به أن
يقرأ في الأديان الأخرى لا أن يعلن كفره بالأديان كلها، وهو حال أغلبهم؛ لذا
فأغلبهم بالفعل تتملكه رغبة نفسية في الإلحاد والكفر لا تصدر عن أي منطق.
وجميعنا
نرى الملحدين في المنتديات والمجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي لا يبحثون عن
الحقيقة، بل يجادلون ويستخدمون كل المغالطات المنطقية الممكنة للتهرب من الاعتراف
بدليل دامغ أو حجة قوية يسوقها المؤمنون، وعندما يعجزون تمامًا قد يبدأون في إطلاق
قهقهات لا معنى لها، وهذه محاولة واضحة للهرب!
ومن
خلال متابعتي يمكنني القول إن قلة فقط من الملحدين من تسببت نشأتهم الدينية
الضعيفة أو المتشددة -كطرفي نقيض-، مع وجود معضلات مطروحة يعجزون عن فهمها، في
وصولهم إلى الإلحاد.
واللافت
لكل من يتناقش معهم أننا لم نر ملحدًا يناقش أو ينتقد دينًا آخر غير الإسلام، وكأن
المسيحية ليس بها ما يستعصي على العقل أو كأن التوراة خالية من ذكر الحروب!
وفي
العقود الأخيرة ظهر بعض من أصبحوا يُعرفون باسم المفكرين الإسلاميين الجدد، وطرقوا
أبوابًا وموضوعات كثيرة. وانقسم الشباب حولهم؛ فالسلفيون رفضوهم ورفضوا كل ما
جاءوا به جملة وتفصيلًا، وهذا لم يحل المعضلات التي حيرت الشباب، ولكنها لا تكفي
من وجهة نظري لأن تكون سببًا في إلحاد أحد. وهناك من قبلهم من الشباب، حتى صاروا
تلامذة لهم، وهؤلاء قبلوا كل ما جاءوا به جملة وتفصيلًا، ووقعوا في المغالاة فيهم
مثل ما وقع من السلفيين في المغالاة في ابن عبد الوهاب وابن تيمية وربما أشد.
وما
يعنينا مناقشته الآن هو سمات تلامذة هؤلاء المفكرين النفسية، ولماذا تابعوهم،
فوضعهم لا يقل إشكالًا عن وضع الملحدين، وربما كان الفرق الرئيسي بين الفئتين هي
درجة المسايرة/المغايرة الاجتماعية لدى كل منهم. ويمكن الرجوع لمقالي "الشباب بين مطرقة المسايرة وسندان المغايرة" لفهم
ما أعنيه بدقة.
هؤلاء
التلامذة أغلبهم مجرد شباب متحمس لكل جديد، يريدون من جهة أن يظهروا بمظهر المثقف
–وهي سمة متشابهة بينهم وبين الملاحدة-، وفي الوقت نفسه يريدون ما يقنعون به
أنفسهم أن الله موجود والإسلام دين صحيح؛ لأنهم يبحثون عن التوافق النفسي
والاجتماعي، ولا يرغبون في المغايرة الاجتماعية ككل لأنها ستضعف درجة توافقهم
وسلامهم النفسي.
ومكمن
المشكلة الكبرى أن بعض المفكرين العرب المحدثين حاولوا التصدي لبعض من تلك الشبهات
التي يعرضها الملحدون، وأجابوا عنها. لكن الحقيقة أن ما أعطوا فيه إجابات مقنعة
كانت بعض الشبهات حول الإسلام تحديدًا وليس حول وجود الله، مثل شبهات عمر السيدة
عائشة عند زواجها من الرسول، أو شبهة زواج الرسول من السيدة زينب بنت جحش، وغيرها
مما سبق أن رد عليه آخرون، أي أنهم كانوا ناقلين –في الأغلب- لردود لم تشتهر عن
سابقين، كما عرضوا لآراء قدماء ومحدثين في بعض الموضوعات الخلافية كنزول عيسى
والدجال وأوردوا أدلتهم. وكان عرض الأدلة يتناول إما التشكيك في بعض الأحاديث
المكذوبة أو تأويل جديد مقبول للآيات القرآنية، وهي أمور ليس فيها بأس لمن يفهم
معنى الاجتهاد.
أما
المواضيع الفلسفية والعلمية التي طرحها بعض المفكرين لإثبات وجود الله أو محاولة
إظهار عدم وجود تناقض بين الدين والعلم –على عكس ما يدعي الملاحدة-، فكانوا
ناقلين مرة أخرى من الكتب العلمية والفلسفية، أكثر من كونهم موثقين ودامجين
للمعلومات، ثم كانوا يحاولون أن يعطوا إضافات من عندهم للتوفيق بين ما عرضوه من
كلام العلماء والفلاسفة وبين الدين.
ويمكنني
القول من خلال متابعتي للمجموعات على الشبكة العنكبوتية وإشرافي على بعض الصفحات
وأحد المواقع في فترة ما إن ما طرحه هؤلاء المفكرون المحدثون أثار من الشبهات بين
تلاميذهم ربما أكثر مما أجاب؛ ذلك أنه شجع التلاميذ على طرح أسئلة تعجز عقولهم في
ظل نقص معارفهم عن استيعابها، فزادت سفسطتهم للظهور بمظهر المثقف الذي هو في
حقيقته مزيف وليس أصيلًا.
ولكن
بقيت أرى ما يقوم به هؤلاء المفكرون ذي قيمة كبيرة، وأن خيرهم أعم وأعظم من أي شر
محتمل على هؤلاء التلاميذ، حتى عندما قال لي أحد الإخوة المسئولين في واحد من
أكبر مراكز محاربة الإلحاد في الوطن العربي ذات مرة إن كل من يعرفهم ممن كانت لهم
ميول إلحادية وألحدوا في النهاية كان أحد المفكرين المعاصرين تحديدًا حلقة وسطى
توقفوا عندها قبل أن يلحدوا، فبدوري -ولأنني كنت أعرف هذا المفكر تحديدًا معرفة
جيدة- رددت عليه بأنه لم يقل يومًا ما يمكن أن يؤدي بمؤمن نحو الإلحاد، ولكن
هؤلاء كانت لديهم شكوك كما يسمونها، أو رغبة في الإلحاد كما أراها وأسميها،
وحاولوا إقناع أنفسهم أنهم يبحثون عن الحقيقة لدى مفكر إسلامي ولم يجدوها.
كان
هذا ردي على الأخ المسئول في مركز الإلحاد قبل أن يطلق ذلك المفكر إحدى سلاسله
المصورة عن إحدى النظريات الإلحادية التي يروج لها رءوس الملاحدة على أنها علم،
والتي غيرت رأيي فيه كثيرًا؛ لأنني اكتشفت أنه يعتبر ما ثبت وصح من الدين بالدليل
القطعي قابلًا للتعديل والتبديل وإعادة النظر في حين أنه يفشل تمامًا في نقد كلمة
مما يقولها أصحاب النظرية، رغم تهافت وسفه أدلتهم لمن له دراية حقيقية بالعلوم،
وقد اتضح أنه ليس منهم!
أي
أنه أثبت أن منهجه هو محاولة توفيق الدين ليتطابق مع ما يظنه علمًا وليس العكس،
لعدم قدرته على فهم كيف أن زعماء الإلحاد في العالم صاروا يستغلون ما ينشرونه من
علم زائف لنفي وجود الله.
والمشكلة
هنا أنه لم يشكك في حديث، بل تحايل على آيات قرآنية واضحة، ووصل الأمر للتطاول
على الله سبحانه وتعالى ونسبة النقص إليه بقبوله بعض ما أورده الملاحدة في هذه
النظرية التي كان يعرضها في هذا الشأن، فتابع في هذا كثيرًا من المتشدقين
والملحدين على السواء ممن يتحايلون في تفسير آيات قرآنية واضحة بما يخالف أبسط
قواعد اللغة العربية، بل وأبسط الحقائق الدينية التاريخية المعروفة كقصة خلق آدم
وحواء. ومن يومها صرت أرى أن ذلك المفكر قد صار شره أعظم بكثير من خيره.
وبالتدقيق
للوصول إلى علة الأمر اتضح لي أن ليست العلة فقط فيما قدمه ذلك المفكر في تلك
السلسلة بقدر ما تكمن العلة في عقليات تلاميذه، وشيئًا فشيئًا اتسعت تلك الرؤية
لتشمل كل المفكرين الجدد؛ فحاله حالهم، وتلاميذه كتلاميذهم؛ فطالما أن الشباب
العربي يصرون على الحديث عن العلم بدلًا من اكتسابه، وطالما ينقدون متحجري الفكر
ليتضح أنهم لا يختلفون عنهم، فالاحتمال الأكبر أن يكون هذا –مع الأسف- هو أثر كل
المفكرين المحدثين في تلاميذهم، وأعني مجرد تغير مصدر المعلومات وتغير المعلومات
مع ثبات طريقة التفكير.
ومن
ثم فأول ما ينبغي أن نهدف إليه هو تنمية مهارات التفكير لدى الشباب عن طريق إدراج
هذا المقرر (العملي) في كافة الجامعات وإتاحة دورات تطبيقية يقدمها متخصصون للشباب
في ذلك المجال، فهي أهم ألف مرة من استماعهم إلى محاضرات هؤلاء المفكرين الجدد حيث
ينزلق ما يقولونه إلى آذان الشباب دون وعي، مؤمنين عليه دون نقاش، فالشباب بحاجة
إلى تعلم التفكير قبل اكتساب المعلومات، وإن لم ننجح في إحداث هذا التغيير فسيكون
لدينا النظير والنقيض التام للسلفيين غير المستنيرين في الوقت ذاته، وربما زادت
أعداد الملحدين.