علم
فوق الوراثة
د/منى
زيتون
علم فوق الوراثة (1).. كيف تؤلف قصتك البيولوجية؟!
الثلاثاء
4 يوليو 2017
https://www.sasapost.com/opinion/epigenetics
علم فوق الوراثة (2).. هل ينسف مفهوم الطفرة؟!
السبت
8 يوليو 2017
https://www.sasapost.com/opinion/epigenetics2
علم فوق الوراثة (3).. هل ينسف مفهوم التطور الصغروي؟!
الاثنين
10 يوليو 2017
https://www.sasapost.com/opinion/epigenetics3
********************
علم
فوق الوراثة (علم فوق الجينات) (علم التخلق) (1)
كيف
تؤلف قصتك البيولوجية؟!
شهد أوائل القرن العشرين وضع مباديء علم الوراثة genetics بعد الاعتراف بأبحاث غريغور مندل التي كان أجراها نحو منتصف القرن
التاسع عشر، وفي منتصف القرن العشرين وضع واطسن وكريك نموذجهما الشهير لتركيب
الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين DNA، وتتالت الدراسات التي اهتمت بتحديد الجينات في جينومات الأنواع
الحية المختلفة وأهمها الإنسان.
والجينات هي الوحدات
التي تحمل الصفات الوراثية على الحمض النووي، ويشكل مجموعها في كل نوع ما يُعرف بالجزء
المشفر للبروتين في جينوم النوع الحي.
وكان الاستنتاج العام من
تلك الدراسات الرائدة أن جيناتنا هي المُشكِّل الرئيسي لحياتنا، فهي لا تحدد فقط
صفاتنا الشكلية، بل هي السبب في إصابتنا بالكثير من الأمراض، فيما أصبح يُعرف
بالاستعداد المرضي الوراثي، ووصل الأمر لمحاولة إلصاق اتهامات خطيرة بها، فأصبحت
الجينات متهمة بدفع بعض البشر نحو ارتكاب الجرائم أو الشذوذ الجنسي، وغيرها من
السلوكيات!
وقد جعل هذا التصور
للجينات الإنسان ورقة كُتب كل ما فيها مسبقًا، وحياته ليست إلا قراءة لها، ويبدو
أن هذا التصور لم يعجب كثيرًا من العلماء الذين واصلوا البحث، ومع مزيد من
الدراسات حول الجينات بدأت تتكشف فروق ظاهرية كبيرة بين أفراد يحملون الجينات نفسها،
لم يكن لها تفسير سوى اختلاف نمط الحياة، فبالرغم من أن الحمض النووي DNA يحمل شفرة الجسم، ويُستخدم لبنائه وإعادة
بنائه، لكن الجينات بحاجة لتعليمات تخبرها ماذا عليها أن تفعل، ومتى، وأين؟
ووُلِد علم آخر بجانب
علم الوراثة، هو علم فوق الوراثة "فوق الجينات" "التخلق" epigenetics. وأثبتت النتائج المستقاة من هذا العلم أن حياة الإنسان ليست مُملاة عليه، بل
هو يكتبها بخياراته فيها. وأنه يبدو أن السلوك هو ما يغير الجينات أو بالأحرى
والأدق يحدد طريقة الجينات في التعبير عن نفسها.
يقول تانزي وتشوبرا Tanzi and Chopra أستاذا الأعصاب في كلية الطب بجامعة
هارفارد: "إنك لست مجرد مجموع الجينات التي وُلِدت بها. أنت المستخدم
والمتحكم في الجينات الخاصة بك، ومؤلف قصتك البيولوجية. لا توجد فرصة للرعاية
الذاتية أكثر إثارة".
Tanzi and Chopra go on
to say: “You are not simply the sum total of the genes
you were born with. You are the user and controller of your
genes, the author of your biological story. No prospect in self-care is more exciting.”
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
الدور الوظيفي لكل العناصر المكونة للجينوم البشري
ذكرنا في مقال "الجينوم البشري" أنه مع ظهور نتائج المشروع
الاستكشافي الرائد "موسوعة عناصر الحمض النووي (إنكود)"، وبعض
الدراسات الأخرى الجادة الموثقة في المجلات العلمية، سُلط الضوء على الدور
الوظيفي لكل العناصر المكونة للجينوم البشري وليس فقط الجينات المشفرة للبروتين.
ونشرت مجلة nature في سبتمبر
2012 بعض نتائج المشروع، والتي تأكد منها الوظائف الهامة التنظيمية لأجزاء الجينوم
البشري غير المشفرة للبروتين، وأنها تتكامل وتتعاون فيما بينها لتنظيم عمل ومستوى
تعبير الجينات المشفرة للبروتين.
ووفقًا لما جاء في العدد فبالرغم من المعلومات الوظيفية
الغزيرة التي قدمها مشروع الترميز (إنكود)، ما زلنا بعيدين عن الهدف النهائي في فهم
وظيفة الجينوم في كل خلية من خلايا كل إنسان، وعلى مرّ الزمن في الإنسان نفسه
.
http://arabicedition.nature.com/journal/2012/10/489052a
كما تغيرت الصورة التي كانت
للتعبير الجيني، وتأكد أنه يمكن أن يحدث تعبير مختلف لجين واحد إلى بروتينات
مختلفة. ومن
ثم يبدو أن الجينات المشفرة للبروتين تحدد صفات الأنواع الحية، ولكن المناطق غير المشفرة
للبروتين تسهم بدور تنظيمي، فهي التي تجعلها تعبر عن نفسها في شكل بروتينات مختلفة،
وفي أماكن مختلفة من الجسم، وأوقات مختلفة.
كما تأكد للعلماء أنه توجد
جينات مُعطَّلة غير نشطة عند أغلب الكائنات الحية كجزء أصيل من جينوم النوع، وتلك
الجينات تكون بحاجة للتنشيط لإنتاج بروتين تحت ظروف ما، كما قد يتغير التحكم في درجة التعبير الجيني، فيصبح الجين أكثر نشاطًا
أو أقل نشاطًا.
وهذه الجينات المُعطَّلة معروفة للعلماء منذ منتصف القرن العشرين ولكنها لا
زالت بحاجة إلى الكثير من الدراسات لفهمها. وهذه الجينات تحديدًا لها قيمة كبيرة
في علم فوق الوراثة؛ كونها تنشط أو تتعطل في أحايين كثيرة وفقًا لظروف البيئة.
فوق الوراثة (فوق الجينات)
(التخلق) epigenetics
غلب الظن لعقود بعد وضع
نموذج واطسن وكريك لبنية الحمض النووي DNA أننا عالقون مع الجينات التي وُلدنا بها، وأن ليست الصفات فقط ذات
المنشأ الوراثي بل الأمراض أيضًا منشأها في الأغلب جيني، وأن لدى كل إنسان
استعدادات مرضية وراثية يحددها ما يملكه من الجينات.
لكن شيئًا فشيئًا تأكد
للعلماء أن النسبة الأكبر من الأمراض التي تصيب البشر تؤثر فيها البيئة بأكثر مما
تؤثر الوراثة، وأن جيناتنا لا تتحكم فينا بل نحن من يتحكم فيها، فنقوم بتشغيلها
وإيقافها، وكذلك زيادة التعبير عنها وإنقاصه، اعتمادًا على عوامل نمط الحياة التي
نحياها؛ فخياراتنا في الحياة تنعكس إيجابًا وسلبًا على صحتنا.
وأهم تلك العوامل هي
نوعية ونظام الغذاء، والحالة المزاجية، ومستوى نشاط الجسم، وممارسة الرياضة،
وفترات النوم، والتعرض لمواد كيميائية ضارة وأشهرها السجائر والمخدرات، ومستوى
الضغط الذي نتعرض له، والعلاقات الإنسانية بأنواعها، وكذلك تفكيرنا ورؤيتنا
لأنفسنا وللآخرين وللعالم ككل، وسلوكياتنا اللطيفة أو السيئة مع الآخرين؛ لأن كل
هذه العوامل يمكن أن تُنشط وتُفعل جيناتنا أو تثبط عملها! على اختلاف هذه الجينات،
لتجلب لنا صحة جيدة أو لتصيبنا بالمرض.
"فالخلايا في أي
كائن متعدد الخلايا لديها تسلسل متطابق للحمض النووي، ومن ثم مجموعات التعليمات
الوراثية نفسها، ومع ذلك تظهر طُرزًا مظهرية مختلفة. وهذه الذاكرة الخلوية غير
الوراثية، والتي تسجل الإشارات النمائية والبيئية هي أساس علم فوق الوراثة".
“The
cells in a multicellular organism have nominally identical DNA sequences (and
therefore the same genetic instruction sets), yet maintain different terminal
phenotypes. This nongenetic cellular memory, which records developmental and
environmental cues, is the basis of epi-(above)–genetics”.
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/611
"ويُعرف علم فوق
الوراثة بأنه دراسة أي عملية تغير نشاط الجينات دون تغيير تسلسل الحمض النووي. وببساطة
أكثر، هو دراسة التعبير الجيني؛ كيف تُشغل وتطفئ العوامل الخارجية الجينات، وكيف
تتحكم في نشاطها صعودًا وهبوطًا".
“Epigenetics
is defined as the study of any process that alters gene activity without
changing the DNA sequence. More simply, it is the study of gene expression —
how external factors turn genes on and off, and up and down”.
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
فهو دراسة التغيرات التي
تحدث لنمط (ظاهري ذي أصل وراثي) لأسباب لا تتعلق بتغير تسلسل نيوكليوتيدات الحمض
النووي DNA. فاهتمام هذا العلم ينصب على التغيرات
الوظيفية للجينوم التي تؤثر على نشاط الجين والتعبير عنه، وليس التغيرات في تركيب
الجينوم.
ويُقصد بالتعبير الجيني
نوع وكمية البروتين الذي تصنعه الخلية وتوقيت صنعه، ويرتبط بالتعليمات التي تصدر للجينات
للعمل.
وكان الشائع أن قدرة الخلية على تبديل البروتين الذي تنتجه ينشأ عن تغير
وراثي، بينما التغير في التعبير الجيني بالتنشيط أو التثبيط هو تغير فوق وراثي،
ولكن المستجدات العلمية أظهرت أن تبدل البروتين المنتج هو الآخر قد يكون تغيرًا
فوق وراثي لا يرتبط بتغير تسلسل DNA؛ والجين
الواحد يمكن أن يٌشفر لعدة بروتينات.
علمًا بأن التغيرات الظاهرية
الناشئة تكون وراثيةً مستقرة في نسل كلٍ من الخلايا أو الأفراد، وتحدث خلال
انقسامات الخلية طوال مدة حياتها، وتتأثر بالنمو والعمر. وهي تنشأ أيضًا من عوامل
البيئة، عندما تتفاعل الجينات مع عوامل محيطة لإنتاج هذا النمط الظاهري.
ونرى هذه التغيرات
بوضوح، ودون تدخل من أي عوامل خارجية في تباين التعبير الجيني لأنواع مختلفة من
الخلايا والذي يؤدي إلى تمايزها الخلوي، فخلايا الجسم رغم أنها جميعها تحمل نسخة
واحدة من الجينات إلا أن كل نوع منها يعبر جينيًا بتنشيط الجينات الضرورية لصنع
البروتينات اللازمة لأداء وظيفتها، وكبت جينات أخرى، ما يجعل كل نوع من الخلايا
يتمايز عن غيره لأجل أداء وظيفة مختلفة، فالخلايا العضلية ليست هي الخلايا
العصبية. فهذه أنماط ظاهرية مختلفة في أنواع مختلفة من الخلايا تحمل المورثات
ذاتها.
الآليات التي تحدث التغيرات فوق الوراثية
"يشير علم فوق
الوراثة عمومًا إلى وراثة التنوع فوق وتجاوز التغيرات في تتابعات الحمض النووي
الريبوزي منزوع الأكسجين DNA. وهذا المصطلح أصبح يُختزل في أنظمة تنظيمية متنوعة (الآليات التي
تُحدث مثل هذه التغيرات) تنطوي على مَثْيَلة الحمض النووي DNA، أو تعديل الهستونات، أو موقع النيوكليوسوم، أو حمض نووي ريبوزي RNA غير مشفر".
“epigenetics
generally refers to the inheritance of variation above and beyond changes in
DNA sequence, the term is becoming shorthand for a variety regulatory systems
involving DNA methylation, histone modification, nucleosome location, or
noncoding RNA”.
ومثيلة methylation الحمض النووي DNA هو تعديل كيميائي يطرأ على الـ DNA بإضافة مجموعة ميثيل لقاعدة نتروجينية (السيتوزين)، ويؤثر على التعبير الجيني؛ حيث إنه أصبح واضحًا أن إضافة الميثيل إلى مواقع محددة من سلسلة DNA، تعيق ارتباط البروتينات القارئة لمعلومات الجينات بها، فتعيق الجينات عن التعبير ويؤثر في نشاطها فيُعطِّلها، وأن إزالة مجموعة الميثيل يعيد إلى الجين نشاطه.
ووفقًا لإحدى الدراسات
الهامة "تعتبر جزر CpG علامات جينية لأنها تلعب أدوارًا مهمة في تنظيم الجينات عبر التغيير فوق
الوراثي.
تميل الجينات ذات مستوى المثيلة المنخفض في جزر CpG المرتبطة بالبروموتر إلى التعبير
في المزيد من الأنسجة ويكون لها تعبير أقوى.
أثبتت نتائجنا أن مثيلة الحمض النووي لجزر CpG المرتبطة بالبروموتر يقمع التعبير
الجيني على مستوى الجينوم."
“CpG
islands considered as gene markers because they play important roles in gene
regulation via epigenetic change.
genes
with a lower methylation level at the promoter-associated CpG islands tend to
express in more tissues and have stronger expression.
Our
results validated that the DNA methylation of promoter-associated CpG islands
suppresses gene expression at the genome level.”
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3303704/
والهستونات كما نعلم هي
البروتينات التي يلتف حولها DNA؛ ليتكون الكروماتين. وتعديل الهستون (تغيير بنية الكروماتين) في
منطقة جينومية محددة يعني منع البروتينات القارئة لمعلومات الجينات من اختراق
الجزء من شريطي الحمض النووي الملتف حول الهستون، فتثبط هذه المنطقة الجينية Hetrochromatin، وتبقى
المناطق الجينية غير الملتفة حول الهستون نشطة Euchromatin. ومن ثم فإن تثبيط التعبير
الجيني في المناطق التي ارتبطت بها البروتينات المثبطة يحدث رغم عدم حدوث تغير في
تركيب الجينوم.
ويستعمل الحمض النووي
الريبوزي RNA غير المشفر أيضًا في التعبير
الجيني بتثبيط RNA المشفر عن صنع البروتين، عن
طريق ارتباطه به. وأيضًا يشارك RNA غير المشفر في توظيف البروتينات في تعديل الهستونات لتنشيط أو
تثبيط الجينات.
واعتبار تعديل الهستون أو
الحمض النووي الريبوزي غير المُشفَّر آليات تابعة لفوق الوراثة لا زال محل مناقشة؛
لأن الهستونات قد لا تشغل وتعطل الجين بل تنظم نشاطه بالزيادة والنقص.
طبيعة التأثيرات البيئية في الجينات
لم تكن الاكتشافات حول
أهمية العوامل البيئية دحضًا في فكرة ارتباط بعض الجينات بنوعيات مختلفة من
الأمراض، ولكنه توضيح لتأثير تلك العوامل البيئية في قراءة الشفرة الوراثية
المحفوظة في الجينات، وكأن البيئة بذلك ترسل رسائل إلى الجينات تؤثر في قراءة
شفرتها. كما أن السلوكيات تحدث تغيرًا في آلية عمل الجينات.
وعلم فوق الوراثة لا يهتم بتحديد الجينات المسئولة
عن صفة أو مرض ما، فذلك اختصاص علم الوراثة، وإنما يعتني هذا العلم بدراسة العوامل
البيئية والسلوكية التي تُنشط أو تُثبط الجينات، أي أن الجين الذي يشكل وحدة الحمض
النووي يبقى كما هو، ولكن التعبير الجيني يختلف باختلاف ظروف البيئة. والمطلوب اكتشاف ما يجعله يختلف.
وأصبح مؤكدًا بالنسبة للعلماء أنه يمكن أن تنتج
بروتينات مختلفة من الجين نفسه نتيجة اختلاف التعبير الجيني باختلاف تلك العوامل البيئية. والأمر أشبه بأصابع البيانو التي رغم
ثباتها إلا أنه يمكن منها إنتاج آلاف الألحان.
والأدهى أن هذا التنويع في إنتاج بروتينات مختلفة
من الجين الواحد لا يختلف فقط من فرد لآخر، بل يختلف لدى الفرد نفسه باختلاف
الظروف المحيطة به من يوم إلى آخر!
كما كان من الملاحظ
للعلماء أن الجينات التي اعتبروها مصدرًا للأمراض -خاصة السرطانات والأمراض
النفسية-، أو ربما الأدق أن نصفها أنها ترتبط ارتباطًا إيجابيًا بتلك الأمراض، لا
يتحتم أن يُصاب كل من يمتلكها بالمرض! بل يمكن أن يُصاب زوج من التوائم المتماثلة
بالمرض بينما لا يُصاب توأمه به!
وللمزيد، يمكن مشاهدة
مقطع فيديو لتيم سبكتور Tim Spector، وهو أستاذ
في علم الأوبئة الوراثية. يفسر فيه لماذا التوائم المتماثلة بعيدة عن التطابق،
وكيف تتفاعل العوامل البيئية مع جيناتنا لتشكيل صحتنا وهويتنا.
https://www.youtube.com/watch?v=1W5SeBYERNI
ووفقًا لدكتور ميشيل
جاينور Mitchell Gaynor فإن التغير
في التعبير الجيني يمتد لأجيال أخرى، ولا يتوقف على الفرد ذاته. يقول: "نحن
نعلم الآن أن التعبير الجيني يأتي من أجيال قبلنا، وسوف يستمر لأجيال بعدنا".
“we
now know that genetic expression comes from generations before us and will
continue for the generations after us.”
https://genechanger.com/mission-statement/
فإن كان التغير فوق
الوراثي قد نشأ من ارتباط مجموعة ميثيل بقاعدة سيتوزين في موقع بدء جين معين على DNA، فحدث تثبيط في هذا الجزء من الجينوم، وتوقف
التعبير الجيني لهذا الجين، فإن نُسخ الحمض النووي DNA
الناتجة ستحتفظ بهذا التغيير، فالظروف البيئية التي غيّرت تعبير
الجين عن نفسه من on إلى off، أو العكس، تستمر طالما لم يُعدل الفرد نمط
حياته.
ولا يتأثر بهذا التغير
الفرد ذاته فقط، بل ويمكن أن يورث الفرد ذلك التغير في التعبير الجيني إلى أبنائه،
رغم أن تركيب الجين ذاته لم يتغير! وذلك
إذا ظهر تعطل في جين في النطفة الذكرية أو البويضة الأنثوية
اللتين تحملان مورثات الآباء، فينتقل ذلك التغيير فوق الجيني إلى الجيل التالي.
وقديمًا قال العارفون
بالله: إن وهبك الله ابنًا غير صالح، فانظر إلى حالك في الفترة التي حملته فيه
أمه، فهو ترجمة له.
تفسيرات فوق وراثية للإصابة بالأمراض
"إن نقص المحددات
الجينية التي تفسر تمامًا وراثة الصفات المعقدة، وعدم القدرة على تحديد الآثار
الوراثية المسببة في بعض الأمراض المعقدة، تشير إلى التفسيرات فوق الوراثية
المحتملة لهذه المعلومات الناقصة".
“The
lack of identified genetic determinants that fully explain the heritability of
complex traits, and the inability to pinpoint causative genetic effects in some
complex diseases, suggest possible epigenetic explanations for this missing
information.”
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/611
وقد لوحظ أن مستوى مثيلة
الحمض النووي DNA يتناقص مع التقدم في العمر، ومع
السلوكيات والعادات الصحية الضارة كالتدخين، وأنه يقل عمومًا في الخلايا السرطانية،
وإن كان مستوى المثيلة في الخلايا السرطانية يختلف باختلاف نوع السرطان وتأثير
نشاط الجينات عليها.
ويدّعي بعض العلماء أن
التدخين وحده يُحدث 50 ألف اختلاف في التعبير الجيني للمدخن، ويؤثر على قراءة
الشفرة الوراثية بشكل خاطئ، وهو بذلك مسبب رئيسي للأورام السرطانية.
وهناك دراسات أشارت إلى دور
الإصابة ببعض الجراثيم في تعديل الهستون في بعض خلايا الجهاز المناعي للإنسان، وتثبيط
بعض الجينات في منطقة الهستون المعدل، ويكون هذا الأثر فوق الوراثي مستمرًا، وينشأ
عنه ضعف مناعة الجسم ضد هذه الجرثومة. وأوضح مثال على ذلك تسبب الإصابة بجرثومة السل
في تثبيط جين (IL-12B).
ويأمل العلماء أن يمكنهم
التحكم في الكثير من الأمراض بتحديد العوامل التي تجعل جينًا معينًا ينشط ليؤثر
التأثير المرضي على صحة الشخص، كي يتمكنوا من تثبيطه، والعكس بتنشيط التعبير
الإيجابي لذلك الجين وجينات أخرى تقي من
المرض.
وفي الجينات الفائقة
يكتبون: "5٪ فقط من المرض يتعلق بالطفرات الجينية وهي حتمية تمامًا، في حين
أن 95٪ يمكن أن يتأثر بالنظام الغذائي، والسلوك، والظروف البيئية الأخرى. لكن
النماذج الحالية للرفاه تتجاهل إلى حد كبير الجينات، إلا أن الدراسات أظهرت أن
برنامج تغيير نمط الحياة الإيجابي يغير من 4000 إلى 5000 نشاط جيني مختلف".
“In Super Genes
they write: ”Only 5% of disease-related gene mutations are fully deterministic,
while 95% can be influenced by diet, behavior, and other environmental conditions.
Current models of well-being largely ignore genes, yet studies have shown that
a program of positive lifestyle changes alter 4,000 to 5,000 different gene
activities.”
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
وحاليًا يعتقد العلماء
أنه كما قد تؤدي بعض الطفرات إلى الإصابة بالسرطان، فإن بعض أنماط التغيرات فوق
الوراثية تؤثر بالمثل وتزيد من خطر الإصابة به.
استخدام آليات علم فوق الوراثة في علاج الأمراض
تشير بعض الأوراق
العلمية في السنوات الأخيرة إلى الجهود الرامية إلى علاج مرضى السرطان عن طريق
تعاطي العقاقير التي تعاكس الأنماط فوق الوراثية غير الطبيعية الموجودة في
الأورام.
“A
News Focus story by Kaiser examines efforts to treat cancer patients with drugs
that reverse the abnormal epigenetic patterns found in tumors.”
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/611
"وقد توصل العديد
من علماء البيولوجيا السرطانية إلى الاعتقاد بأن مثيلة الحمض النووي DNA، وهي عملية تقوم فيها الإنزيمات بتثبيت
مجموعات الميثيل على الجينات وعرقلة نشاطها، وما يسمى بالتغيرات فوق الوراثية
الأخرى، قد تكون ذات أهمية مثل الطفرات الوراثية في إحداث السرطان.
وقد تلقى ما يسمى فريق
حلم علم فوق الوراثة أكثر من 9 ملايين دولار من حملة هوليوود جليتسى التي تُعرف بـ
"الوقوف أمام السرطان"، للمساعدة في تمويل المرحلة الأولى من التجارب
السريرية الثانية لاختبار أدوية منع مثيلة DNA، المستخدمة بالفعل بنجاح لعلاج سرطان الدم، لعلاج الأورام الصلبة
مثل سرطان الرئة.
والفكرة ليست لقتل
الخلايا السرطانية ولكن لتصحيح مثيلة الحمض النووي؛ ومن ثم "إعادة
برمجة" لها على التصرف بشكل أكثر طبيعية.
ولكن بعض العلماء يشعرون
بالقلق من أنه بدلًا من إعادة تحديد الأنماط فوق الوراثية، فإن الدواء الأساسي
الذي يجري اختباره ببساطة يقتل الخلايا، سواء كانت سرطانية أو صحية، وله آثار
جانبية سامة. وعلى وجه التحديد فإنه لم
يُعرف بعد كيف يعمل العلاج.
ولأن الأدوية التي تزيل
مجموعات الميثيل من الحمض النووي يمكن أن تُنشط على الأرجح مئات من الجينات في
الخلايا السليمة، أي تحولها من off إلى on، بما في ذلك
الجينات المسرطنة المعروفة، فهناك قلق من أن تلك الأدوية يمكنها علاج نوع من
السرطان ولكن قد تسبب نوع آخر".
“Many cancer biologists
have come to think that DNA methylation, a process in which enzymes tack methyl
groups onto genes and block their activity, and other so-called epigenetic
changes might be as important as genetic mutations in causing cancer.
Now a so-called
epigenetics dream team has received more than $9 million from a glitzy
Hollywood campaign called Stand Up To Cancer to help fund the first phase II
clinical trials to test DNA demethylating drugs—already used successfully to
treat a blood cancer—for solid tumors such as lung cancer.
The idea is not to kill
cancer cells but to correct their DNA methylation and thereby
"reprogram" them to behave more normally.
But some scientists worry that instead
of resetting epigenetic patterns, the primary drug being tested simply kills
cells, whether cancerous or healthy ones, and therefore has toxic side effects. Precisely how
the treatment works isn't yet known.
And because drugs that
remove methyl groups from DNA can potentially switch on hundreds of genes in
healthy cells, including known oncogenes, there is concern that the drugs could
cure one kind of cancer but cause another.”
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/576
وتصف ورقة في علم الطب
التحليلي استخدام علامات فوق وراثية للتنبؤ بأي مرضى سرطان الكبد سيستجيبون لدواء
مضاد للسرطان الذي يمنع مثيلة الحمض النووي.
“A
paper in Science Translational Medicine describes the use of epigenetic markers
to predict which liver cancer patients will respond to an anticancer drug that
blocks DNA methylation.”
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/611
وتقوم فكرة العلاج على
تعطيل عمل الإنزيمات الهامة لعملية المثيلة، ومن ثم لا تتم المثيلة، وتتحرر
القاعدة النتروجينية المرتبطة بمجموعة الميثيل، فينشط الجين المعطل مرة أخرى.
وأحد الأدوية التي
تستهدف علاج سرطان الثدي، ويعرف باسم مذيب مستقبلات هرمون الأستروجين الانتقائي، يعطّل
البروتين المحرّك لهذا النوع من السرطان.
كما وقد أجرى دين أورنيش
Dean Ornish بحثًا تجريبيًا هامًا رائدًا
على مرضى سرطان البروستاتا بعنوان "التغيرات في التعبير الجيني للبروستاتا في
الرجال الذين يخضعون لتغذية مكثفة وتدخل في نمط الحياة" Changes in prostate gene expression in men undergoing an intensive
nutrition and lifestyle intervention. والبحث منشور في عام 2008 على
مجلة PNAS الصادرة عن Natural academy of science.
وهدفت دراسته التجريبية
إلى فحص التغيرات في التعبير الجيني للبروستاتا لدى عينة من الرجال المصابين الذين
رفضوا الجراحة الفورية، أو العلاج الهرموني، أو الإشعاع، وشاركوا فقط في التغذية المكثفة الصحية والتدخل في نمط الحياة (ممارسة
اليوجا، والتنفس، والتأمل، والتصور، والاسترخاء التدريجي) في حين خضعوا لمراقبة
دقيقة لتطور الورم.
وأشارت النتائج إلى أن
التغييرات الشاملة في نمط الحياة قد تعدل تطور سرطان البروستاتا؛ فبعد ثلاثة أشهر
من التدخل، وُجد نشاطًا أعلى في 48 جينًا من الجينات المؤثرة في نمو السرطان، في
حين صار 453 جينًا أقل نشاطًا.
http://www.pnas.org/content/105/24/8369.full?sid=025d8b31-7fae-4b04-bb09-2e2a18ad19ff
وسبق أن شرحنا في مقال "الفيروسات العكسية الداخلية
(ERVs)" أن هذه التسلسلات في الجينوم
التي تشبه الفيروسات ويدعي التطوريون أنها موجودة في الجينوم (المضيف) كأثر باقٍ
لإصابة قديمة، ينظر إليها على أن بعضها محايدة تم تعطيل نشاطها فهي غير مرتبطة بأمراض،
وبعضها مسرطنة، وبعضها تتسبب في ضعف المناعة. في حين تؤكد
أغلب الدراسات أنها أجزاء أصيلة في الجينوم، وتتكامل في المناطق التنظيمية للجينوم
البشري لتكون مؤثرة في التعبير عن الجينات المجاورة.
ووفقًا لإحدى الدراسات:
"تساهم العناصر العكسية (ERVs) المستأنسة على نطاق واسع كعناصر تنظيمية داخل شبكات الجينات المضيفة. عند
تكامل (دمج) السلالة الجرثومية، يتم تقييد تعبئة العنصر العكسي من خلال الإسكات
(التعطيل) اللاجيني (فوق الوراثي)، والتدهور الطفري، والدفاعات المناعية الفطرية الموصوفة
على أنها استجابة المحاكاة الفيروسية. تظهر الاكتشافات الحديثة كيف أن الأحداث المبكرة
في تكون الأورام تعيد تنشيط العناصر العكسية لتسهيل عملية الاستخراج الورمي، وإجهاد
النسخ المتماثل، والتحويل العكسي، والأخطاء الانقسامية، والالتهاب العقيم، والتي تعطل
بشكل جماعي سلامة الجينوم.
يكشف توصيف التوازن اللاجيني
(فوق الوراثي) المتغير في العناصر العكسية في الخلايا السرطانية أيضًا عن أهداف جينية
جديدة يمكن أن يؤدي تعطيلها إلى تعزيز الاستجابات لعلاجات السرطان. الاكتشافات الحديثة
التي تمت مراجعتها هنا تؤطر العناصر العكسية التي أعيد تنشيطها كدوافع لتكوين الأورام
واستجابات العلاج، حيث يمكن أن تؤدي إعادة تنشيطها من خلال العلاجات اللاجينية (الفوق
وراثية) إلى تحفيز الحصار المناعي ولقاحات السرطان وغيرها من العلاجات القياسية."
“Domesticated
retroelements contribute extensively as regulatory elements within host gene
networks. Upon germline integration, retroelement mobilization is restricted
through epigenetic silencing, mutational degradation, and innate immune
defenses described as the viral mimicry response. Recent discoveries reveal how
early events in tumorigenesis reactivate retroelements to facilitate
onco-exaptation, replication stress, retrotransposition, mitotic errors, and
sterile inflammation, which collectively disrupt genome integrity.
The
characterization of altered epigenetic homeostasis at retroelements in cancer
cells also reveals new epigenetic targets whose inactivation can bolster responses
to cancer therapies. Recent discoveries reviewed here frame reactivated
retroelements as both drivers of tumorigenesis and therapy responses, where
their reactivation by emerging epigenetic therapies can potentiate immune
checkpoint blockade, cancer vaccines, and other standard therapies”.
https://www.annualreviews.org/doi/pdf/10.1146/annurev-cancerbio-030419-033525
وليس السرطان وحده هو
الذي تُجرى الدراسات فوق الوراثية لأجل التوصل إلى سُبل توقف نمو أورامه، وشُرع في
البحث له عن علاجات باستخدام تقنيات فوق الوراثة، بل جميع الأمراض التي يُعتقد أن
هناك استعدادًا وراثيًا لدى الأفراد للإصابة بها كالربو، والألزهايمر، والسكري،
واضطرابات المناعة، وأمراض الكلى، وضمور العضلات، وكذلك الاضطرابات النفسية بما في
ذلك التوحد، والفصام، والاضطراب ثنائي القطب، جاري العمل من أجل خلق علاجات فوق
وراثية لها.
والألزهايمر على سبيل
المثال، من أكثر الأمراض التي يهتم العلماء بالبحث عن طرق لوقف نشاط الجينات المسئولة
عنه، وأثبتت إحدى الدراسات منذ سنوات تأثير طريقة التغذية في وقف تدهور المرض،
ونصحت بتناول زبدة جوز الهند يوميًا.
المورثات
الغذائية
لعل الغذاء أكثر العوامل البيئية التي يعتني علم
فوق الوراثة بتحديد آثارها على التعبير الجيني وإنتاج البروتينات، ومن قديم لاحظ
الإنسان تأثير التغذية على سلوك البشر والحيوانات، وكيف تغير طريقة التغذية إحدى
النحلات لتصير ملكة بينما تبقى باقي الرعايا شغّالات. ووعى البشر كيف تؤثر تغذية
الأم على الجنين، لكن تصورهم لأثر التغذية صار أعمق بعد المكتشفات الحديثة في علم
فوق الوراثة.
ومن ذلك أنه ثبت أن النساء اللاتي لا يتلقين تغذية
جيدة أثناء الحمل تزداد احتمالية إصابة أطفالهن بأمراض معينة، وقد أجريت دراسات على
نساء عانين من المجاعة وأشارت النتائج إلى أن أطفالهن كانوا أكثر عرضة للإصابة بأمراض
القلب والسكري من النوع الثاني وغيرها.
وهناك اكتشافات كثيرة
حديثة حول تأثير لبعض المركبات الكيميائية في الأغذية التي نتناولها على الحمض
النووي DNA. على سبيل المثال:
الكربوهيدرات التي تعزز ارتفاع نسبة الجلوكوز في الدم تهاجم الحمض النووي. بينما
مركبات مثل سولفورفان sulforaphane (في
القرنبيط)، والكركمين curcumin (الكركم)، وإبيجالوكاتشين جالات epigallocatechin gallate (الشاي الأخضر)، يمكن أن تبطئ
أو يحتمل أن تعكس تلف الحمض النووي.
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
كما أثبتت كثير من
الدراسات منذ عقود العلاقة بين تناول الطعام الصحي وانخفاض مخاطر الإصابة بأمراض
القلب والسكر وغيرها.
لكن الجديد هو الدراسات
التي أشارت إلى التأثير فوق الوراثي لنوعيات الطعام الصحية على وقف نشاط الجينات
التي تشكل عوامل إمراض تسبب تلك الأمراض. والعكس بالنسبة للأطعمة السريعة غير
الصحية والتي تنشط الجينات الممرضة، وتؤثر على جينات الجهاز الهضمي سلبًا، خاصة
جينات الكبد.
عوامل
أخرى بخلاف الغذاء
أشارت دراسات عديدة
أيضًا إلى تأثيرات عوامل أخرى بخلاف الغذاء على التعبير الجيني، فعدم كفاية النوم
أيضًا تعطل النشاط الجيني. قام فريق من الباحثين شمل خبراء في علم النوم وخبراء
علم الوراثة بفحص تأثير النوم على وظيفة الجينات واكتشفوا أن أسبوعًا واحدًا فقط
من النوم غير الكافي غيّر نشاط أكثر من 700 جين.
كذلك فإن من
المقبول تمامًا أن ممارسة الرياضة البدنية هي واحدة من أفضل الأشياء التي يمكن
القيام بها لصحتك العامة والعقلية. وهناك أدلة على أن ممارسة الرياضة البدنية يمكن
أن تؤثر بشكل إيجابي على التعبير الجيني. دراسة حديثة لأدمغة الفئران المُسنة وجدت
117 جينًا تم التعبير عنها بشكل مختلف في أدمغة الحيوانات التي ركضت بانتظام،
بالمقارنة مع تلك التي كانت مستقرة.
“Inadequate
sleep also disrupts genetic activity. A team of researchers that included sleep
science and genetics experts examined the influence of sleep on gene function
and discovered that just a single week of insufficient sleep altered the
activity of over 700 genes.
It’s
well accepted that physical exercise is one of the best things you can do for
your overall health and mental well-being. Now there’s evidence that physical
exercise can positively affect gene expression. A recent study of the brains of
elderly mice found 117 genes that were expressed differently in the brains of
animals that ran regularly, compared to those that were sedentary.”
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
في الجزء الثاني من
المقال علم فوق الوراثة(2).. هل ينسف مفهوم الطفرة؟!
نتناول تأثير المكتشفات الجديدة في علم فوق الوراثة على نسف مفهوم الطفرة، وما
يستتبعه.
وتعتبر الطفرة الآلية
التي طالما افترضها البيولوجيون التطوريون أساسًا لحدوث التطور؛ كونها تعطي
تفسيرًا –وفقًا لنظريتهم- لاختلاف التركيب الجيني في جينومات الأنواع الحية
المختلفة التي يفترض التطوريون أنها تطورت من بعضها البعض، فماذا بعد تأكد ثبات
تركيب الجين رغم تغير التعبير الجيني عنه في العديد والعديد من الدراسات؟! يا له
من مأزق!
**************************
علم فوق الوراثة (2)
هل ينسف مفهوم الطفرة؟!
ذكرنا في المقال السابق علم فوق الوراثة (1).. كيف تؤلف قصتك البيولوجية؟!
أن علم فوق الوراثة هو دراسة أي عملية تغير نشاط الجينات دون تغيير تسلسل الحمض
النووي. فهو يختص بدراسة التعبير الجيني؛ كيف تُشغل وتطفئ العوامل البيئية
الجينات، وكيف تتحكم في نشاطها صعودًا وهبوطًا. وأشرنا إلى أن الدراسات التي
أثبتت دور المحددات البيئية (فوق الوراثية) في تحديد صفاتنا وإمكانية إصاباتنا
بالأمراض قد قلّصت تمامًا مفهوم الطفرة الوراثية، الذي عوّل عليه العلماء كثيرًا
في تفسير التغير في التعبير الجيني. فما هي الطفرة؟
الطفرة
في أوائل القرن العشرين، وجد أنصار نظرية التطور
أنفسهم في ورطة كبيرة بعد وضع مبادئ علم الوراثة؛ إذ إنه قد ثبت يقينًا أن الصفات
المكتسبة لا تورث، بينما نظرية التطور كلها تقوم على فكرة ترقي الأنواع الحية بعد
تولد صفات جديدة قابلة للتوريث!
لم يكن أمام التطوريين بد من إدخال فرضية جديدة
لإنعاش النظرية المحتضرة، هذه الفرضية تدّعي إمكانية حدوث تغير في المادة
الوراثية وتوليد مادة وراثية جديدة، ثم توريث هذه المادة الوراثية الجديدة. عُرفت
هذه الفرضية الناشئة باسم الطفرة.
إذًا، تعتبر الطفرة
الآلية التي طالما افترضها البيولوجيون التطوريون الجدد أساسًا لحدوث التطور؛
كونها تعطي تفسيرًا –وفقًا لنظريتهم- لاختلاف تسلسلات النيوكليوتيدات في جينومات
الأنواع الحية المختلفة التي يفترض التطوريون أنها نشأت من سلف مشترك.
فالجينوم هو الذي يعطي
كل نوع مجمل صفاته، والفروق الجينومية (DNA) بين الأنواع الحية هي فروق في التركيب وليست فروقًا تعبيرية وحسب،
وبحاجة إلى تفسير واضح من المنظور التطوري للكيفية التي تكونت بها على هذا النحو
شديد التباين، والذي يميز كل نوع على حدة.
والطفرة كما تعرفت إلينا
طوال القرن العشرين: هي تغير مفترض في تركيب الحمض النووي DNA، والذي هو كتاب شفرة الحياة لكل فرد من أي نوع، يُفترض أنه ينشأ
عنه تغير في التعبير الجيني، ومن ثم تغير في الصفة على المستوى الظاهري.
"مفهوم
الطفرة القديم= تغير في التركيب الجيني ينتج عنه تغير ظاهري"
وقبل أن نناقش المأزق
الذي وجد التطوريون فيه أنفسهم في ضوء مستجدات علم فوق الوراثة، بعد اكتشاف ثبات
تركيب الجين بعد حدوث تغيرات بيئية، وأن استجابة الجين لتلك التغيرات لا تتعدى
تغير التعبير الجيني عنه، نناقش أولًا أهم ما اعتُبر مسلمات حول الطفرة طوال القرن
العشرين، ثم الجدل العلمي المتزايد حول حقيقة السرطان كأحد أهم الأمراض التي طالما
اعتبُرت ناتجة عن طفرات.
مسلمات التطوريين حول الطفرة
· يفترض التطوريون أن الطفرة:
i.
ينتج عنها إما ظهور صفات مناسبة للنوع ولكن كان لا
يُفترض ظهورها في ذلك الفرد الممثل للنوع الحي؛ كظهور صفة العين الزرقاء في طفل
لا يحمل والداه هذه الصفة في طرزيهما الجينيين، وبهذا تكون الطفرة مسئولة عما
يسمونه التطور الصغروي. وهو ما سنناقشه تفصيلًا وندحض ادّعاءات التطوريين حوله في
الحلقة الثالثة من هذه السلسلة.
ii.
كما قد ينتج عنها حدوث تشوه في الأجنة يُنتج صفات
غير مرغوبة ولا تمثل أي شكل من أشكال الطُرز المظهرية السليمة للصفة في ذلك
النوع، ولكن هذا التشوه لا يُخرج الفرد المشوه عن كونه أحد أفراد النوع.
iii.
وكذا فالطفرة هي المسئولة –وفقًا لنظريتهم- عن
توليد المعلومات الجينية الجديدة في جينومات الأنواع الجديدة المفترض نشوئها؛ إذ
يفترضون أنه باستمرار حدوث الطفرات لجينوم فرد من نوع ما سينتج عنه في النهاية
ظهور نوع جديد. ومن ثم فإن البناء التراكمي عن طريق الطفرات هو الآلية المفترضة
للتطور الكبير الذي تحدث عنه دارون، والذي هو أساس النظرية.
·
ومعلوم أن الطفرات التي تحدث في خلايانا الجسدية
لا يمكن الادّعاء بشأن توريثها، كما أنه نظرًا لأن جميع خلايا جسم الفرد مستنسخة
من خلية واحدة التي هي البويضة الملقحة بالحيوان المنوي، لذلك فالاحتمالية
الوحيدة التي يفترضونها لتوريث الطفرة هي أن تحدث في أحد المشيجين الذكري أو
الأنثوي الذين اندمجا لتكوين الزيجوت، الذي سينقسم لينشأ عنه الجنين. كما أنه من
الممكن أن تحدث لنا طفرات جديدة في خلايانا ولم تكن موجودة عند والدينا لأنها حدثت
بعد بدء خلقنا.
·
ولا زال التطوريون الجُدد يُصرّون على هذه الآلية
لتوريث الطفرة إذا
حدثت في خلية جنسية، وأنها تنتقل إلى الأبناء وتكون أساسًا للانتواع! رغم أنه قد ثبت علميًا أن الطفرات الكروموسومية
والجينية في الأمشاج الجنسية (الجاميتات) المذكرة أو المؤنثة إما أن تؤدي إلى موت
أو تشوه الأجنة أو إصابتها بأمراض خطيرة كاللوكيميا والتخلف العقلي.
·
معلوم أن الطفرات قد تحدث تلقائيًا، ولكنها نادرة،
بسبب وجود آليات لإصلاح أخطاء النسخ في الحمض النووي DNA، كما
أنها قد تكون محدثة نتيجة تعرض الفرد لما يسمونه عوامل التطفر مثل الإشعاع والمواد
الكيميائية الضارة وبعض العقاقير، وكلها ضارة؛ لذا يُطلب من مرضى السرطان الذين
يرغبون في الإنجاب حفظ بويضات وحيوانات منوية في بنوك الجينات قبل بدء العلاج
الكيميائي أو الإشعاعي كي تُستخدم في التلقيح الصناعي بعد ذلك لإنجاب أطفال
أصحّاء؛ لأن علاجات السرطان تؤثر على الجهاز التناسلي سواء للذكر أو الأنثى؛ ما
يؤدي إلى تلف البويضات أو الحيوانات المنوية. وقد عانى اليابانيون كثيرًا من
تأثيرات الإشعاعات للقنبلتين النوويتين اللتين أُلقيتا على هيروشيما وناغازاكي في
نهاية الحرب العالمية الثانية.
·
الطفرات ضارة عمومًا
i.
بالرغم من ادعاء التطوريين المعاصرين بأن أغلب
الطفرات محايدة –على عكس ما تظهر نتائج الأبحاث الجادة-، لكن الطفرات التي تُعدل
من البروتينات الوظيفية التي تنتج من الجينات المطفرة على الأغلب تكون ضارة
وغالبًا ما تؤدي لتشوهات. كما أن ضرر الطفرات ملحوظ كمسبب للأمراض البشرية.
ii.
وحتى ما تم الادّعاء بشأنها أنها طفرات مفيدة
كالطفرات التي تُمكِّن البكتريا من مقاومة المضادات الحيوية، فإما أن تكون طفرة
حذف أو طفرة تثبيط لتعبير الجين الذي من المفترض أن ينشط في الظروف الطبيعية الخالية
من المضاد الحيوي لينتج نوعًا من البروتين في جدار الخلية البكتيرية، وهذا
البروتين من خلاله يتفاعل جدار الخلية البكتيرية مع المضاد الحيوي، لذا فإن الخلية
البكتيرية تحذف أو تعطّل الجين كي لا ينتج البروتين لوقف التفاعل مع المضاد
الحيوي؛ للحفاظ على حياتها. وسنناقش المزيد عن أمثال هذه الطفرات التي تغير
التعبير الجيني فقط في مقال "التطور الصغروي".
iii.
كما اعتقد العلماء بدءًا من النصف الثاني من القرن
العشرين، وبناءً على الدراسات الرائدة في معهد باستور في باريس، أنه قد يحدث تنشيط
لجينات مثبّطة في جينوم النوع الحي استجابة لظروف البيئة؛ ومن ثم فليس ثمة معلومات
جينية وظيفية جديدة متولِدة، وهو ما تفترضه نظرية التطور كأساس للانتواع.
فتنشيط الجينات المعطّلة لا ينتج عن طفرات تحدث
تغييرًا في تركيب الجينات، والأمر لا يعدو أن يكون استجابة للتغيرات في نمط
الحياة، فهو يتبع علم فوق الوراثة بلا جدال.
iv.
لكن التطوريين يطلبون من العالم التصديق بأنه كانت
توجد طفرات مفيدة، غيّرت تسلسلات الجينومات للأسلاف، وسببت زيادة معلومات جينية وظيفية
جديدة، نتجت عنها صفات جديدة عديدة، كانت قابلة للتوريث، وسبّبت نشأة كل هذه
الأنواع التي عمرت الأرض، قديمًا وحديثًا، ولكنها فقط لا تظهر لنا الآن، وتتخفّى
عنا منذ كُتِب تاريخ البشر!
·
كما أن معظم ما أُشير إليه على أنه طفرات طوال
القرن العشرين يُعزى إليها توريث صفات متنحية، وبغض النظر عن صحة توصيفها كطفرة في
تركيب الجين، فالصفات المتنحية لا تظهر إلا إذا اجتمع في الابن جينان متنحيان
يحملان الصفة الوراثية نفسها المفترض أنها ناشئة من الطفرة؛ وهو ما يدعونا
للتساؤل عن احتمالية نشأة تلك الصفات ابتداءً في أفراد مختلفين، بينما التطوريون
في المقابل يصرون على أن أي طفرة قابلة للتوريث لا بد وأنها نشأت في السلف المشترك،
ومن ثم تم نقلها لجميع أفراد الأنواع الناتجة منه، متجاهلين أنه في الأنواع
التي تتكاثر جنسيًا لا بد من سلفين؛ ذكر وأنثى، لأن السلف المشترك المطفور –لو سلّمنا بوجوده ووجود الطفرة- لا يصلح لتفسير
توريث الطفرات المتنحية؛ إذ كيف تكونت أنثى مماثلة في النوع ولديها نسخة الصفات
نفسها التي تكونت عشوائيًا في الذكر؟! أم أنه تكون ذكر للنوع الجديد ثم طفر هذا
الذكر ونشأت منه أنثى؟!
·
ومن المستجدات
العلمية في أواخر القرن العشرين التي
أربكت التطوريين هو ثبوت وجود ملايين الفروق الطبيعية في تسلسلات نيوكليوتيدات
جينوم أفراد البشر الطبيعين. ولا تخرج أي منهم عن حدود الفرق الطبيعي داخل النوع الواحد، والمعروفة باسم تعدد الأشكال أحادي النيوكليوتيد (SNPs)، وقد تحدثنا عنها عند عرض نتائج مقارنات جينوم الإنسان وجينوم
الشمبانزي.
"تعدد الأشكال
: يحدث اختلاف في تسلسل الحمض النووي بين الأفراد.
تعتبر هذه اختلافات جينية طبيعية تساهم في خصائصنا الفردية بدلاً من الطفرات الجينية.
قد تزيد بعض الأشكال المتعددة من قابلية الشخص للإصابة بالسرطان. على سبيل المثال،
قد تفسر هذه الاختلافات الجينية الصغيرة سبب إصابة بعض المدخنين بسرطان الرئة بينما
لا يصاب البعض الآخر بذلك".
“polymorphism:
Difference in a DNA sequence occurring among individuals. These are considered
normal genetic variations which contribute to our individual characteristics
rather than gene mutations. Certain polymorphisms may increase a person's
susceptibility to cancer. For example, these small genetic differences might
explain why some smokers develop lung cancer while others do not.”
http://www.cancerindex.org/geneweb/glossdef.htm
لكن، هل سيسمح التطوريون
بسقوط فرضية الطفرة؟
كما يتضح مما سبق فإن كثيرًا مما اعتُبر مسلمات
طوال القرن العشرين عن مفهوم الطفرة صار مثارًا لتساؤل الباحثين مع الثورة العلمية
الهائلة في علوم الكيمياء الحيوية والوراثة، والتي أُضيف إليهما مؤخرًا علم فوق
الوراثة.
وكثيرًا ما طوّر التطوريون فرضياتهم عندما تتهلهل
تمامًا، وتصبح محاولات ترقيعها مستحيلة. ولا زالت تلك عادتهم عندما تفشل فرضياتهم
فيخرجون علينا من جرابهم الأشبه بجراب الحاوي بفرضيات جديدة. على سبيل المثال:
· عندما
ثبت يقينًا أن قرب وبعد الأنواع المفترض على شجرة التطور لا يتوافق مع دراسات
الحمض النووي DNA
للأنواع الحية، وأن هذه الشجرة لا تعطي صورة كاملة عن تطور الحياة ولا تستطيع أن
تفسر التعقيدات فيها، فبدلًا من اقتلاعها والاعتراف بأن التفرع من سلف مشترك واحد
وبشكل متراتب أمر يستحيل تخيله علميًا، قرروا استبدالها بشكل شبكي لتتواءم مع
عشوائية فرضياتهم حول الأسلاف المشتركة، وإن كان بناء الشبكة لم يتم بعد. وقد
ناقشنا هذا الموضوع تفصيلًا في مقال "شجرة التطور".
Doolittle, W. Ford
(February, 2000). Uprooting the tree of life. Scientific American
282 (6), p.p.90–95.
· وعندما
اكتُشفت حفريات كثيرة تشير إلى انفجارات لأنواع حية كثيرة في العصر الكامبري، لا
يوجد أدنى دليل على أنها تطورت من بعضها البعض، ولا يظهر فيها التطور التدريجي
الذي تفترضه الداروينية، بدأ بعضهم في وضع فرضية الطفرة الإجمالية ”gross
mutation” في نموذج "التوازن النقطي" punctuated
equilibrium التي وضعها نيلز إيلدردج وستيفن جولد أوائل
السبعينات، والتي اعترفت بأن السجل الأحفوري لا يظهر التدرج في ظهور الأنواع الحية
الذي تفترضه الداروينية، وافترضوا حدوث نقلات نوعية ضخمة وكبيرة تولدت عنها الأنواع
الحية فجأة. وصار كثير من التطوريين يقولون بثبات
الأنواع ثم حدوث تطور فجائي، لتفسير ظهور أنواع حية جديدة في حقبة ما، لأن
البديل بالنسبة لهم هو الاعتراف بنشأة الأنواع الحية بشكل تدريجي ولكن بالخلق
الخاص، وهو ما يعني القضاء على نظريتهم. وسبق أن
تحدثنا عن تلك الفرضية في مقالات أخرى.
https://phys.org/news/2013-02-species-sudden.html
· وبعد
أن تهلهلت فرضيتهم حول نشأة الإنسان منتصب القامة في شرق إفريقيا بسبب تغيرات
جيولوجية أحدثت بدورها تغيرات بيئية، والتي ناقشنا خواءها في مقال "التطور والجغرافيا الحيوية (3) لماذا يبحثون عن أسلاف
الإنسان في إثيوبيا؟!"، خرج علينا بعضهم في يونيو 2017 بفرضية تدّعي
أنه يبدو أن الإنسان الحديث قد نشأ في غرب إفريقيا، وتحديدًا في المغرب، ثم يبدو
أنه تحسبًا منهم للزمن، وإتاحة لأكبر قدر من المرونة –والنظرية مرونتها زائدة كما
نعلم- فما لبثت أن تعدّلت الفرضية سريعًا بأن الإنسان
الحديث نشأ في إفريقيا كلها، وفي عدة مهود وليس مهدًا واحدًا.
http://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-40196776
لكن، في حال الطفرة
تحديدًا، فهي ليست كأي فرضية يمكن استبدالها بفرضية أخرى. ومع ذلك فقد أصبح هناك
اعتراف متزايد بقصورها كفرضية في تفسير ظهور التنوع الجيني المهول على الأرض.
وفي السنوات الأخيرة ظهر
ما يُعرف بأصحاب الاتجاه الثالث في التطور، والذين يطعنون في الطفرة! ويذكر موقعهم
الرسمي أن "سجل الحمض النووي لا يدعم التأكيد على أن الطفرات العشوائية
الصغيرة هي المصدر الرئيسي للتنوعات الجديدة والمفيدة".
“The
DNA record does not support the assertion that small random
mutations are the main source of new and useful variations.”
http://www.thethirdwayofevolution.com/
وإن كانوا لا يبرحون
يتحدثون عن الطفرات ولكن بطرق أخرى وأهمها التضاعف الجيني. لكن التعويل على طفرات
التضاعف لا يجد ما يدعمه من دراسات DNA الحديثة، فأي زيادة أو نقص في الجينات يولد خللًا، وليس كما
يحاول التطوريون إيهامنا بأن فردًا تضاعفت بعض جيناته، ثم تطفّرت النسخة الزائدة،
ونتيجة التعبير الجيني عن تلك الشفرة المختّلة نتجت بروتينات غريبة، ثم إن هذا
الفرد لم يتأثر! ثم ورّث ذلك التطفر الهائل لأبنائه!
كما قد سبق
وذكرنا أن الطفرة ذاتها لم تكن من فرضيات النظرية في صورتها الأولى التي وضعها
دارون، ولكنها أضيفت في مطلع القرن العشرين لإنعاش النظرية بعد الضربة الموجعة
الأولى التي وجهها لها علم الوراثة، فماذا عن الاكتشافات الحديثة في علميّ الوراثة
وفوق الوراثة، وهل استجد حقيقةً من المكتشفات ما يُشكل تهديدًا مباشرًا لمفهوم
الطفرة، ويمكن أن ينسفها لولا تمسك التطوريين بها؟!
السرطان، هل ينشأ من طفرات
في الجينات أم من تغير في نشاط الجينات؟!
كان ملحوظًا للعلماء منذ
القرن العشرين أنه قد تحدث حالات ترجمة للشفرة الوراثية التي تحملها الخلايا
بطريقة مختلفة عن المعتاد، وكان يتم عزوها إلى الطفرات، والسرطان هو أكثر الأمراض التي طالما أُشير لأثر
الطفرة في نشوئها.
والسرطان في حقيقته هو خلل في ضبط الانقسام الخلوي؛ فمن المعروف أن الخلايا
السرطانية تنشأ عندما تنقسم خلايا يتميز انقسامها بالانتشار غير المنضبط، والتي
يفقد الجسم السيطرة على انقسامها، على العكس من انقسام الخلايا الصحيحة والذي
يتحكم فيه الجسم.
ويستلزم العلاج التدخل الطبي لإزالة جميع خلايا الورم السرطاني جراحيًا أو
قتلها بالعلاج الإشعاعي أو الكيميائي، لأن بقاء خلية واحدة من تلك الخلايا كفيلة
بالانقسام مجددًا وتكوين الورم مرة أخرى.
وكان يُعتقد أن السرطان يحدث نتيجة عدة أنواع من الطفرات:
·
طفرة أولية في أي من طلائع الجينات الورمية (الجينات
المسرطنة الأولية) (الجينات الورمية البدئية) (Proto-oncogenes)، وهي
جينات طبيعية، تٌكوِّن بروتينات طبيعية تنظيمية؛ تنظم دورة حياة الخلايا ونموها
وتكاثرها، وتم التعرف على أكثر من 50 جين منها. وأول جين تم اكتشافه منها في عام
1970 اعتبر من عائلة جينات الفيروسات العكسية.
هذه الجينات افتُرض أنها عند تطفرها تتحول إلى جينات
ورمية مسرطنة Oncogene تشفر لبروتينات (ورمية) مسببة لحدوث بداية الورم، ويختل التحكم في
النمو الخلوي.
وهناك افتراض بحدوث تثبيط في موت الخلايا المبرمج
الذي يخلص الجسم من الخلايا المعطوبة. وأشارت مزيد من الدراسات إلى أن زيادة التعبير
الجيني عن بروتينات هذه الجينات قد يكون هو المسبب للورم، وليس الطفرة في تركيبها.
·
كما افتُرض حدوث طفرات في بعض الجينات الكابتة
للورم tumor suppressor genes (التي تكبح أي نمو عرضي للخلايا)، فتخفض الطفرة فعاليتها
الوظيفية أو تفقدها، ما يجعل إصلاح الحمض النووي يتوقف، والانقسام غير المنضبط
يستمر، وتنتج خلايا سرطانية معيبة ابتدائية.
أي أن ظهور السرطان يحدث بسبب تعطيل الجينات الكابتة
للورم بسبب الطفرات فيها، وذلك جنبًا إلى طفرات الجينات الورمية. ويعد فقدان
الجينات الكابتة للورم لوظيفتها أسوأ من تنشيط الجينات المسرطنة في انتشار
السرطانات.
·
ثم تحدث طفرات متعاقبة في الخلايا السرطانية التي
تنقسم بالآلاف من بعضها البعض أثناء تكون الورم؛ حيث كان يُعتقد في ضوء نظرية
الطفرات أن الخلايا السرطانية تغير تركيبها الجيني، بما يجعل كل خلية في الورم
مختلفة تمام الاختلاف عن الخلايا الأخرى نتيجة الطفرات التي تحدث لها جميعًا، ما
يجعل علاج السرطان صعبًا للغاية، خاصة عندما يتأخر علاجه ويزيد حجم وعدد تلك
الخلايا.
وبحسب الدراسات العلمية فإن "الجينات الورمية هي طفرات اكتساب الوظيفة
للجينات التنظيمية الطبيعية أو الجينات الورمية الأولية. اكتشفت في الأصل في الفيروسات
العكسية التي بدأت مجموعة متنوعة من سرطانات الحيوانات والطيور، ويعتقد أن الجينات
المسرطنة تساهم بشكل مهم في التسرطن البشري.
يتم تغيير الجينات المسرطنة الأولية عن طريق الطفرة النقطية أو التضخيم أو إعادة
الترتيب. يؤدي التغيير الهيكلي للجينات المسرطنة الأولية إلى تغيير تعبير كمي أو نوعي
لمنتج البروتين المقابل. تعمل البروتينات الورمية على تخريب مسارات تحويل الإشارة على
سطح الخلية، في العصارة الخلوية و / أو في النواة.
جنبًا إلى جنب مع البروتينات المسرطنة الأخرى أو في حالة عدم وجود منتجات الجينات
الكابتة للورم، تساهم الجينات الورمية في تكوين السرطان البشري من خلال دعم الانتشار
السريع، أو عدم تنظيم التحكم في دورة الخلية أو منع موت الخلايا المبرمج".
“Oncogenes are gain-of-function mutations
of normal regulatory genes or proto-oncogenes.Originally discovered in retroviruses initiating a variety of animal and
avian cancers, oncogenes are believed to be important contributors to human
carcinogenesis.
Proto-oncogenes are altered by point mutation,
amplification or rearrangement. Structural alteration of proto-oncogenes leads
to a quantitative or qualitative expression change of the corresponding protein
product. Oncoproteins subvert signal transduction
pathways at the cell surface, in the cytosol and/or in the nucleus.
Together with other oncoproteins or in the
absence of tumor suppressor gene products, oncogenes contribute to human cancer
formation by supporting accelerated proliferation, de-regulating cell cycle
control or blocking apoptosis.”
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/10697588/
وقد افترض العلماء في ظل نظرية الطفرات في الآونة الأخيرة أن نشوء جينات
الورم الأولية يكون بسبب حدوث طفرة في مستقبلات عامل من عوامل النمو الذي تنتجه
جينات الورم الأولية؛ بحيث يصبح نشطًا دائمًا. واعتبروا هذا التغير في النشاط
الجيني طفرة سائدة.
وقد أكدت إحدى الدراسات الهامة على الأدوار الفسيولوجية لأحد المسارات التنظيمية
(Ras-Raf-MAPK) الذي
يقوم بنقل الإشارات من المستقبلات على الغشاء الخلوي إلى أهداف نووية وسيتوبلازمية
وغشائية مختلفة، مما ينسق مجموعة كبيرة ومتنوعة من الاستجابات الخلوية. ويلعب دورًا أثناء نمو الكائن الحي، وتنظيم دورة الخلية، وتكاثر
الخلايا وتمايزها، وبقاء الخلية وموت الخلايا المبرمج.
وأشارت الدراسة إلى أن الإفراط في التعبير أو تنشيط مكونات المسار يعد مؤشرًا
شائعًا في الأمراض التكاثرية مثل السرطان، ويساهم في بدء الورم وتطوره وانتشاره.
“Overexpression or activation of the
pathway components is a common indicator in proliferative diseases such as
cancer and contributes to tumor initiation, progression and metastasis.”
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1986673/
كما اعتبروا انخفاض الفعالية الوظيفية أو تعطّل بعض الجينات التي تكبح أي
نمو عرضي للخلايا وتوقف نشاطها الجيني هو نوع آخر من الطفرات لكنه طفرة متنحية،
فأي جين من الجينات الكابحة لتكون الورم السرطاني لا بد أن يفقد كلا زوجي الجين
قدرته على كبح نمو الخلايا السرطانية كي يحدث السرطان.
وعليه فحدوث السرطان يرتبط بنوعين من التعديلات في التعبير الجيني؛ بتنشيط الجينات
الورمية الخلوية activation of cellular
oncogenes ، وتعطيل
الجينات الكابتة للورم inactivation of tumor suppressor genes.
وأصبح مؤكذًا أن الجينات المسرطنة تؤدي إلى تكاثر الخلايا غير الطبيعي كنتيجة
للتغيرات الجينية التي إما تزيد من التعبير الجيني أو تؤدي إلى نشاط غير متحكم فيه
للبروتينات المشفرة بالورم السرطاني.
“Oncogenes drive abnormal cell
proliferation as a consequence of genetic alterations that either increase gene
expression or lead to uncontrolled activity of the oncogene-encoded proteins. “
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK9894/
وقد لوحظ في حالات كثيرة أن المسارات التنظيمية التي تنشطها منتجات
(بروتينات) الجينات المسرطنة هي ذاتها المسارات التي تثبطها المنتجات (البروتينات)
الكابحة للورم.
ولطالما اقترح منظرو الطفرة أن أي تغير في التعبير الجيني، بالتنشيط أو
التعطيل، لا شك ناتج عن تغير في شفرة الجينوم، أي أن تركيب الجينات ذاتها يتغير.
لكن بعد الاكتشافات الأخيرة في علم فوق الوراثة، والتي أثبتت أن التغير في
التعبير الجيني لا يلزم منه أن تركيب الجين ذاته قد تغير، أصبح ولا بد أن يثور
السؤال الآتي:
هل الجينات تتطفر ويتغير تركيبها الجيني فيحدث السرطان
كما كان يُعتقد، أم أن العوامل فوق الوراثية (البيئية) تُنشِّط بعض الجينات التي
يُشك أن لنشاطها أثر مُسرطن؟ كما قد تُعطِّل نشاط الجينات التي يرتبط نشاطها بمنع
حدوث السرطان؛ تلك الجينات التي تكبح أي نمو عرضي للخلايا والمصححة للانقسام
الخلوي؟
بمعنى أن العوامل فوق الوراثية كالتدخين والأشعة فوق البنفسجية تجعل
الجينات تقرأ الشفرة الوراثية بشكل سيء رغم ثبات الشفرة وعدم تغير تركيب الجين، واقتصار
التغير على التعبير الجيني وحسب، فتنتج بروتينات سيئة، أو تفرط في التعبير الجيني
عن بروتيناتها، وتتكون الخلايا السرطانية. أو على الأقل فإن لتغير التعبير الجيني
دورًا يفوق دور الطفرات التركيبية.
الجينات المانعة والمصححة
للسرطان
لأن الجينات الكابتة للأورام (الجينات المانعة للسرطان) تشفر لبروتينات
تمنع تكاثر الخلايا وتقضي عليها، كان يُعتقد أن الخلايا السرطانية تنمو بالانقسام
الخلوي غير المنضبط، بسبب حدوث طفرة في بعض الجينات التي تكبح أي نمو عرضي للخلايا.
ومن ثم كان يُنظر إلى الخلايا السرطانية على أنها خلايا متطفرة.
وهذه الجينات هي مجموعة واسعة من الجينات تختلف في آليات عمل البروتينات
التي تشفر لها، ولكنها كلها تتضافر في منع تكون الأورام؛ فبعضها يوقف دورة الخلية
عند تلف الحمض النووي مثل بروتين BRCA1، وبعض
هذه البروتينات يثبط تكاثر الخلايا السرطانية مثل β-(TGF). وبعضها
تمنع انتشار الخلايا السرطانية مثل CADM1. وبعض البروتينات التي تشفرها هذه الجينات تعطي الأوامر بالموت المبرمج عن
تعذر إصلاح الحمض النووي مثل بروتين p53.
فنظرًا لوجود آليات للإصلاح الذاتي للخلايا تعتمد على تلك الجينات
التصحيحية فإن ظهور أي خلية من الخلايا السرطانية النامية بشكل عشوائي يتم
اكتشافه ومن ثم يتم إصلاحها أو تدميرها حال ظهورها قبل أن تتحول إلى ورم كامل؛ حيث
تُرسل الجينات التصحيحية محرضة الاستماتة الخلوية تعليمات لقتلها؛ لأن وجود خلية
واحدة معيبة يمكن أن يُشكل ورمًا سرطانيًا به ملايين الخلايا المعيبة في حال
استمرار انقسامها.
وهناك دراسات عديدة درست
آليات
الإصلاح الذاتي في الخلايا، وكانت جائزة نوبل في الطب عام 2016 من نصيب أحد
الأطباء الذي بحث في تلك الآليات، وحدد الجينات الضرورية للالتهام الذاتي.
https://www.nobelprize.org/nobel_prizes/medicine/laureates/2016/press.html
لكن مع وجود تلك الآليات في خلايانا، يحدث السرطان
أحيانًا، وفي العقود الأخيرة صار يحدث كثيرًا، وهذا يدل على أن آليات كبت الأورام
لم تعد تقوم بدورها كما يجب. ووفقًا لنظرية الطفرات المسببة للسرطان لم يكن هذا
مفهومًا تمامًا، لكن في ضوء المكتشفات الحديثة في علم فوق الوراثة يمكن تفسير ذلك بأن
الجينات التصحيحية قد تم تثبيطها وصارت على الوضعية off، فلم
تعد تنشط لأداء دورها، أو على الأقل قلت فعاليتها، ولا شك أن لظروف نمط الحياة
الحديثة أثرها على تثبيط عمل الجينات التصحيحية وتثبيط كبحها لأي نمو عرضي للخلايا
ابتداءً، مثلما أن لها أثرها في تنشيط الجينات المسرطنة.
ووفقًا لنظرية الطفرات اعتُبر التدخين والتعرض لأشعة الشمس خاصة فوق
البنفسجية عوامل خطر تسهم في إحداث الطفرات المسببة للسرطان، ولكن في ضوء مكتشفات
علم فوق الوراثة فهي عوامل تؤثر بشكل سلبي على التعبير الجيني لتنشطه أو تثبطه
وتغير نواتجه، محدثة لنا المرض دون أن يتغير التركيب الجيني للخلايا.
وزيادة أعداد حالات مرضى السرطان والأمراض النفسية وكثير من الأمراض التي
شاعت في عصرنا كالألزهايمر دليل على وجود مسببات لها في نمط حياتنا المعاصر.
تزايد الاعتراف بالمؤثرات
فوق الوراثية على حساب الطفرات
في العقد الأخير تزايد الاعتراف بالمؤثرات فوق الوراثية كمسبب للأمراض خاصة
السرطانات بأنواعها، والتقليل في المقابل من قيمة الطفرة التركيبية التي كان يُنظر
إليها طوال قرن كامل كمسبب وحيد للسرطانات.
وفي كتابهما ذائع الصيت "الجينات الفائقة" كتب
تانزي وشوبرا Tanzi and Chopra
"5٪ فقط من المرض يتعلق
بالطفرات الجينية وهي حتمية تمامًا، في حين أن 95٪ يمكن أن يتأثر بالنظام الغذائي،
والسلوك، والظروف البيئية الأخرى. لكن النماذج الحالية للرفاه تتجاهل إلى حد كبير
الجينات، إلا أن الدراسات أظهرت أن برنامج تغيير نمط الحياة الإيجابي يغير من 4000
إلى 5000 نشاط جيني مختلف".
“In Super Genes
they write: ”Only 5% of disease-related gene mutations are fully deterministic,
while 95% can be influenced by diet, behavior, and other environmental
conditions. Current models of well-being largely ignore genes, yet studies have
shown that a program of positive lifestyle changes alter 4,000 to 5,000
different gene activities.”
http://reset.me/story/epigenetics-how-you-can-change-your-genes-and-change-your-life/
ويعتقد العديد من علماء البيولوجيا السرطانية حاليًا بأن مثيلة الحمض
النووي DNA، وهي عملية تقوم فيها الإنزيمات
بتثبيت مجموعات الميثيل على الجينات وعرقلة نشاطها، وما يسمى بالتغيرات فوق الوراثية
الأخرى، قد تكون ذات أهمية مثل الطفرات الوراثية في إحداث السرطان.
Many cancer biologists
have come to think that DNA methylation, a process in which enzymes tack methyl
groups onto genes and block their activity, and other so-called epigenetic
changes might be as important as genetic mutations in causing cancer.
http://science.sciencemag.org/content/330/6004/576
ونلاحظ من تلك النقول السابقة أنه قد أصبح للمنظور
فوق الوراثي اعتبارًا وقيمة كبيرة، لكن في المقابل لا زال هناك من يراهن على حدوث
تغير في بنية الحمض النووي ذاته، وإن كانت تغيرات صغيرة، بما يعني حدوث طفرات،
وليس مجرد تغير في التعبير الجيني، كما أنه لا زال هناك من يعتبر أن تعطيل الجينات
أو تنشطيها استجابة للبيئة هو شكل من أشكال الطفرات الجينية!
وفي معهد أبحاث السرطان في بريطانيا،
أُجريت دراسة جينية كبيرة عام 2013، أخذ فيها الباحثون عينات من مرضى أنواع مختلفة
من السرطانات (سرطان الرئة، وسرطان الجلد، وسرطان المبيض) للبحث في جينوماتهم عن
آثار للطفرات السرطانية المفترضة. ووفقًا للأطباء المشاركين في الدراسة فقد كانت
هناك شواهد على الضرر في الحمض النووي، لكن الباحثين أيضًا لم يستطيعوا تجاهل
تأثيرات البيئة الواضحة على الحمض النووي للمرضى، فقد كان واضحًا آثار التعرض
للأشعة فوق البنفسجية على جينوم مرضى سرطان الجلد، وآثار التعرض للتدخين على مرضى
سرطان الرئة. والأهم أن القدرة على إصلاح الحمض النووي كانت مفقودة لدى هؤلاء
المرضى.
https://www.bbc.com/news/health-23665996
ويمكنني القول إن نتائج الدراسة الأخيرة وإن لم تستبعد وجود الطفرة تمامًا،
بل على العكس كانت تبحث عن شواهد تؤيدها، فإنها قد أثبتت آثار العوامل فوق
الوراثية في إحداث السرطان، والتأثيرات السلبية لبعضها على نشاط الجينات التصحيحية
لدى مرضى السرطان.
كذلك، وفي تقرير علمي نشرته هيئة الإذاعة البريطانية bbc عام
2014 اعتبر العلماء البريطانيون المشاركون في الدراسة أن إيقاف عمل الجين (POT1) وهو اختصار (Protection of telomeres1)، ما هو إلا طفرة جينية! وافترض الباحثون أن الطفرات في هذا الجين
تلحق الضرر بالكروموسومات الوراثية، وهو ما يرتبط عمومًا بحدوث سرطان الجلد.
http://www.bbc.com/arabic/scienceandtech/2014/03/140331_skin_cancer
وهذا الجين هو المسئول عن الحفاظ على منطقة التيلومير، وهي منطقة الذيل في
الكروموسومات أو ما تُسمى بالقطع النهائية، ولها أهمية كبيرة في عملية تضاعف الحمض
النووي، ولو كانت غير موجودة أو غير سليمة لحدث فقدان لمعلومات وراثية مهمة، واختل
عمل الخلايا والبروتينات الناتجة من شفرتها الوراثية. ولكن هل وقف نشاطه يعتبر
طفرة؟!
كما توجد علاجات وقائية لمنع عودة السرطان تعتمد على تقنيات فوق الوراثة،
مثل بروتين (B-RAF) الذي يُثبِّط الجينات التي يمكن أن يؤدي نشاطها إلى سرطان الجلد،
ويشارك هذا البروتين في إرسال إشارات داخل الخلايا تسهم في توجيه نمو الخلايا بشكل
سليم. هذا البروتين من المفترض أن ينتجه جسم الإنسان السليم طبيعيًا، من خلال جين
يُعرف باسم BRAF gene.
وقد أشارت دراسة عام 2002 إلى اختلاف نشاط هذا الجين لدى مرضى بعض أنواع
السرطان، كسرطان الجلد، واعتُبر هذا الاختلاف في النشاط الجيني طفرة، كما اعتُبر
توريث تلك الاختلافات مسببة للعيوب الخلقية منذ الميلاد. وباختصار، فإنه لم يُنظر
إليها وقتها كتغيرات في التعبير الجيني أدت إلى وقف نشاط ذلك الجين، وهذه التغيرات
يمكن أن تورث رغم عدم تغير تركيب الجين ذاته، وهو الاتجاه التفسيري لكثير من
العلماء حاليًا الذين يتبنون المنظور فوق الوراثي، لكن لا زال هناك من يتبنى في
المقابل نظرية الطفرة، خاصة البيولوجيين التطوريين.
إن فهم العلماء للطرق التي يمكن أن يُنظّم بها الجين الواحد للتعبير عن
بروتينات مختلفة، والتي يتعطل بها فيتوقف نشاطه تمامًا أو يقل، لا زال ضحلًا وفي
بداياته، ولكن من الواضح أن مفهوم الطفرة كما عُرف إلينا طوال القرن العشرين في
طريقه للتعديل ما لم يُنسف تمامًا في ضوء ما يستجد من دراسات؛ لأن الطفرة تفترض
حدوث تغير في الصفة على مستوى الطُرز الجيني التركيبي للفرد يُعبَّر عنها من خلال
طُرزه المظهري، بينما وفقًا للمعطيات من الدراسات الحديثة في علم فوق الوراثة
فإن:
أغلب الحالات التي اعتُبرت قديمًا طفرة قد تأكد أن الأمر
لا يعدو فيها إنتاج بروتين مختلف من خلال الجين نفسه الذي لم يتغير، أو تنشيط
جين معطّل، أو تثبيط جين نشط، وهو ما يخرجها عن توصيف الطفرة التركيبية.
لكن لا زال العلماء ينظرون إلى التشوهات الخلقية على أنها ظهور صفات غير
مناسبة للنوع في التركيب أو الوظيفة أو كليهما، ولكن كيفية ترجمة الجين للشفرة
بحيث تنتج تشوهًا لم تعد واضحة بعد تأكد تولد بروتينات مختلفة من جين واحد وكل
منها لا يحدث تشوهًا. فما الذي يحدث التشوه؟! ربما كان اختلال التعبير الجيني بسبب
بعض العوامل البيئية سببًا في حدوث التشوهات التي لا تؤدي إلى موت الأجنة، بينما
الطفرات التي تغير التركيب الجيني للجاميتات تكون مميتة للأجنة المشوهة.
لكن هل هناك تغيرات تركيبية في الجينات؟ وهل هذه فقط هي حدود الطفرة التي
يمكن أن تحدث في بنية الجين ذاته، لينتج عنها جين غير سليم؟! ولكن أليست هذه
الحدود لا تتماشى إطلاقًا مع افتراضات نظرية التطور التي تفترض تغيرًا على مستوى تركيب
الجين يكون أفضل ليتم انتقائه طبيعيًا بعد ذلك، وبتوالي تلك العملية تنشأ أنواع
جديدة؟!
فإن كان تقبل وجود الطفرة كمسبب للأمراض صار محل شك أو تقليل، فما بالنا
بتقبل توريث الجينات المطفرة تركيبيًا كما تفترض نظرية التطور؟! والتي تُصر على
أنها جينات أفضل وليست معيبة، وتمثل إضافة جينية لم تكن موجودة مسبقًا في جينوم
النوع الحي، علمًا بأننا لم نر ما يمكن أن يُستدل به على ذلك في أرض الواقع!
خاتمة
إن التصور بعدم وجود الطفرات التركيبية القابلة للتوريث هو ضربة قاصمة
للتطوريين الذين حاولوا تفسير التنوع الهائل في الصفات الوراثية في الأنواع الحية
بحدوث طفرات جينية، تغير وتعدل
التركيب الجيني وتخلق
معلومات جينية وظيفية جديدة، لتكون مسئولة عن ظهور صفات جديدة، تم توريثها،
وبتراكمها نشأت أنواع جديدة، وذلك للرد على علماء الوراثة الذين أكدوا أن الصفات
المكتسبة لا تنتقل للأجيال الجديدة.
وبعد أن ثبت أن أغلب التغيرات التي تطرأ على
جينومات الأنواع الحية لا تحدث في بنيتها، بل لا تعدو أن تكون تغيرًا في التعبير
الجيني، فيعد هذا دليلًا على ثبات الشفرة الوراثية لكل نوع من الأنواع الحية، وأن
الآليات الوراثية التي خلقها الله سبحانه وتعالى تحافظ على ثبات التركيب الجيني
لكل نوع، ويعني أنه حتى الآلية الوحيدة التي كانت مفترضة لحدوث تغير جيني قد يمثل
إضافة جينية، وهي الطفرة، صارت مشكوكًا فيها من الأساس.
وأتساءل: ألم يكن من المفترض أن يسقط مفهوم
الطفرة كما تعرف لدينا طوال القرن العشرين بعد كل هذه الاكتشافات المذهلة والتي لا
زالت تتوالى؟
ومنطقيًا، فالإجابة نعم، ولكن على أرض الواقع لا
ولن يسقط، لأن نظرية التطور كلها قائمة على فكرة التبدل المزعوم في الشفرات
الوراثية وتكوين مادة وراثية جديدة بفعل التضاعف الجيني ثم الطفرات الصغيرة
الحادثة في نطاقاته، لذا يجب الإبقاء عليها. ولن أستغرب مطلقًا من أي تبجح
للتطوريين بالتعامل مستقبلًا مع علم فوق الوراثة على أنه تأكيد على إمكانية حدوث
التطور! فالالتفاف على كل ما يستجد في البحث العلمي ويناقض نظريتهم هو ما اعتدناه
منهم.
ونتابع في الحلقة الثالثة "علم فوق
الوراثة (3).. هل ينسف مفهوم التطور الصغروي؟!" لنستقريء معًا تأثير
المستجدات المستقاة من علم فوق الوراثة؛ خاصة ما يخص الجينات المُعطَّلة الموجودة
في جينومات الأنواع الحية، والتي تنشط أحيانًا تحت ظروف بيئية خاصة، على استدلال
التطوريين على حدوث التطور بما اصطلحوا على تسميته بالتطور الصغروي.
**********************************
علم فوق الوراثة (3)
هل ينسف مفهوم التطور الصغروي؟!
ذكرنا في المقال الأول "علم فوق الوراثة (1).. كيف تؤلف قصتك البيولوجية؟!"
أن علم فوق الوراثة هو دراسة أي عملية تغير نشاط الجينات دون تغيير تسلسل الحمض
النووي؛ فهو يختص بدراسة التعبير الجيني؛ كيف تُشغل وتطفئ العوامل البيئية
الجينات، وكيف تتحكم في نشاطها صعودًا وهبوطًا. وأشرنا إلى بعض المستجدات
العلمية التي أثبتت دور المحددات البيئية (فوق الوراثية) في تحديد صفاتنا وإمكانية
إصاباتنا بالأمراض، وفي الحلقة الثانية من السلسلة "علم فوق الوراثة (2)..
هل ينسف مفهوم الطفرة؟!" تناولنا تأثير تلك
المستجدات في تقليص مفهوم الطفرة الوراثية، التي عوّل عليها العلماء في القرن
العشرين كثيرًا في تفسير التغير الجيني.
وفي هذه الحلقة نتناول
تأثير مستجدات علم فوق الوراثة على تغير المنظور الذي يُنظر به إلى شكل من أشكال
التطور يسميه التطوريون "التطور الصُغروي"، وهو وإن كان يُشار إليه على
أنه التغير الذي يطرأ على النوع الواحد نتيجة لتكيفه مع الظروف البيئية، ولا
يتجاوز حدود النوع، ولا يغيره، إلا أن توسع التطوريين في الحدود التي يتحدثون بها
عنه يخرجه عن حدود التكيف، خاصة مع محاولاتهم الاستدلال به على إمكانية حدوث ذلك
التطور الانتواعي الذي يشكل أساس نظرية التطور.
التطور
الصغروي Microevolution
يُعرِّف التطوريون التطور
الصغروي على أنه تغير في تردد (frequencies) الجين في التجمع الأحيائي (population)، ويمكن أن يحدث ذلك بطرق مثل
الهجرة (migration)، والانجراف الجيني (genetic drift)، وهي طرق تغير نسب الجينات
المورثة لصفة ما بين أفراد العشيرة.
ولكن الطريقة الأهم
التي يفترضونها ويعوِّلون عليها كثيرًا لحدوث التطور الصغروي؛ هي الطفرة (Mutation)؛ كونهم يفترضون قدرتها على
إحداث تغير في التركيب الجيني لأفراد النوع الحي الذي يمثل التجمع الأحيائي، فهي
لا تغير فقط نسب الجينات في العشيرة، بل تخلق معلومات جينية وظيفية جديدة
–بزعمهم-، ومن ثم يستدلون بحدوث تلك الطفرات المفترضة ليس فقط على إمكانية حدوث
التطور الصغروي، بل على إمكانية حدوث التطور الانتواعي الكبير.
وسبق وذكرنا أن علم
فوق الوراثة يُعنى بالمؤثرات البيئية التي تؤثر في نشاط الجينات، دون حدوث تغير في
تركيب الجينات ذاتها، وأن الجينات المُعطَّلة الموجودة في جينومات الأنواع الحية
تنشط أحيانًا تحت ظروف بيئية خاصة، كما قد تتعطّل جينات كانت سابقًا نشطة استجابة لظروف
البيئة. من ثم فقد صار مفهوم الطفرة كتغير في التركيب الجيني قابل للتوريث محل شك
كبير بين العلماء. ومثل تلك المستجدات العلمية كافية لنسف ما اصطلح التطوريون على
تسميته بالتطور الصغروي، ويخلطون بينه وبين مصطلح يتقبله جميع البشر وهو التكيف
للبيئة.
هل
التطور الصغروي مرادف للتكيف؟ وما الفرق بين التكيف والتطور؟
يكثر الخلط بين
مصطلحيّ التكيف (التأقلم) Adaptation، وبين التطور المفترض بنشوء أنواع جديدة Evolution.
· التكيف لا خلاف
عليه؛ إذ يفترض أن أنواعًا حية كانت أكثر قدرة على التكيف مع البيئة التي وُجِدت
فيها، فعاشت في تلك البيئة، بينما عاشت أنواع أخرى في بيئات أخرى. لكن
i.
هل هي خُلِقت متكيفة على هذا النحو أم تغيرت لتكون عليه؟
ii.
وهل حدوث تغيرات جذرية في البيئة يُقابلها النوع الحي بتنشيط لجينات معطّلة
في جينومه أو تثبيط جينات أخرى، أو تغيير درجة تعبيره الجيني؛ لإحداث تغييرات
محدودة في صفاته الظاهرية لا تخرجه عن كونه فردًا من أفراد نوعه الحي، وتسهم تلك
التغييرات في تكيفه مع البيئة، دون أن يحدث أدنى تغيير في تركيبه الجيني ومعلوماته
الجينية، هل هذا يُعتبر دليلًا على إمكانية حدوث تطور انتواعي، ونشأة أنواع جديدة
من بعضها البعض؟!
إن هذا يتعدى فرضية
التكيف ذاتها، ويسوقنا إلى فرضية التطوريين التي يلتفون على نتائج الدراسات
العلمية لإثباتها.
· التطور يفترض ما هو
أبعد من التكيف. إنه يقتضي قبول فرضية حدوث تعديلات جوهرية أثناء محاولة الفرد
للتكيف مع البيئة أدت لنشوء نوع جديد. وما يحاول التطوريون قوله إن النوع الحي
يتغير تغيرًا جذريًا ليكون قادرًا على التأقلم مع البيئة، وليس أنه قد خُلِق
ابتداءً قابلًا للتكيف معها، وأن هذا التغير يصل إلى حد نشوء نوع جديد، بل أنواع
جديدة!
إن أغلب ما ثبت من تغيرات مفيدة حدثت لأي نوع حي كانت
تغيرات في التعبير الجيني وليس التركيب الجيني، وعليه يمكن أن نصادق على أنه إذا تغيرت
درجة التعبير الجيني فإنها تولد صفات تساعد النوع على التكيف، بالرغم من ذلك فإن فكرة
تراكم التغيرات التكيفية عبر الأجيال وصولًا لنوع جديد لا دليل عليها، والمفترض أن
تستحدث هذه التغيرات كمًا هائلًا من المعلومات الوظيفية الجديدة، كما أن هذا التكيف
التراكمي المزعوم في حد ذاته يَفترض ألا يكون في كل عضو على حدة بل يرتبط بغيره من
أجزاء الكائن الحي فيما يُعرف باسم "الحزم التكيفية" لأن أي تغير في جزء
من الجسم مهما صغر قد يؤثر في جزء آخر، فكيف ينشأ التكيف من خلال تراكم تغيرات عشوائية؟!
والمشكلة الكبرى أن كثيرين من ناقدي التطور لا
يفهمون أن التنزلات الكثيرة من جانبهم للتطوريين بدون ضوابط؛ أي دون التأكيد على
الحدود التي نقبلها، وإطلاق ألفاظ قبول معممة، يمكن أن تُستغل بعد ذلك في أن يوهم
التطوريون المتابعين للنقاش بين الفريقين بصحة موقفهم، وأوضح مثال على ذلك هو تقبل
معارضي التطور استخدام مصطلح "التطور الصغروي".
وعن نفسي كنت أرفض استخدام مصطلح "التطور
الصُغروي" كمرادف لتكيف الأنواع الحية، ولكن أصبحت أذكره أحيانًا من كثرة ما
شاع مع توضيح تحفظي عليه، رغم أن كلا الفريقين، مؤيدي التطور ومعارضيه، يختلفون
حول رؤيتهم له اختلافًا جذريًا؛ والحدود التي نقبله ونفهمه بها تختلف تمامًا عما
لدى التطوريين، وما يريدون هم أن يثبتوا من خلاله.
والحقيقة أن التطور الصغروي –كما يعرضه
التطوريون- ليس مرادفًا للتكيف، وهناك حدود يضعها رافضو التطور عند الحديث عن
التطور الصغروي باعتباره تكيفًا، وهي أن حدود التكيفات ذاتها موجودة في المناطق
التنظيمية من جينوم النوع الحي، بما يستحيل أن تخرجه عن كونه فردًا من أفراد ذلك
النوع، مع التأكيد أنه لا يمكن مع مرور الزمان حدوث تغير في التركيب الجيني،
والحصول على معلومة وراثية جديدة، كما يفترض التطوريون، وهو ما لم يثبت نهائيًا.
وحقيقة ما يُسمى بالتطور الصغروي أن:
·
كل نوع مخلوق يحمل في
حقيبته الجينية أسباب وطرق التكيف للبيئة.
·
التغير المحدود في
الصفات داخل النوع نفسه ناشئ عن تنوع جيني محفوظ أزلًا في الحقيبة الوراثية للنوع،
ولا يوجد دليل على تغيرات في التركيب الجيني يزيد المعلومات الجينية الوظيفية
باعتبار التعبير عنها يظهر في صفات جديدة.
·
الطبيعة ليست مسئولة عن
إيجاد أي شيء. هي فقط تستحث الكائن لتطويع حقيبته الوراثية ليتكيف معها بتنشيط أو
تثبيط جيناته وزيادة أو نقص التعبير عنها؛ لذا فهناك حدود صارمة لتلك التغيرات
الممكنة.
تغير
التعبير الجيني واستدلال التطوريين به على حدوث التطور
إن تغير التعبير
الجيني بالتنشيط أو التعطيل، وبالزيادة أو النقص، ملحوظ للعلماء منذ دراستهم وراثة
لون الجلد في الإنسان وكثير من الحيوانات. وجميعنا يعلم أنه بزيادة تعرضنا لأشعة
الشمس يزداد إفراز صبغة الميلانين التي تلون الجلد، مهما كان لون الجلد فاتحًا،
وتفسير هذا أن الجينات التراكمية المسئولة عن تلوين الجلد قد زاد نشاطها تأثرًا
بعامل فوق وراثي (بيئي) وهو أشعة الشمس. ولعله أكثر من واضح، للعامة قبل العلماء،
أن ابتعادنا عن أشعة الشمس يجعل لون بشرتنا يعود شيئًا فشيئًا إلى ما كان عليه،
لأن التركيب الجيني لخلايانا لا دخل له بالتغير في التعبير الجيني. ولم يدّعِ أحد
أنه قد حدثت له طفرة جينية عند تعرضه لأشعة الشمس! أو أنه قد تطور تطورًا صغرويًا!
لكن كثيرًا ما استدل التطوريون بتغير نشاط بعض الجينات، كتنشيط بعض الجينات
المُثبَّطة المُعطَّلة، وكذلك تثبيط بعض الجينات النشطة، على حدوث ما يسمونه
التطور الصغروي، مصرّين على اعتبارها طفرات، ومتجاهلين أنها موجودة ابتداءً في
جينوم النوع الحي، وأن أفراد النوع لم تزد على أن نشّطتها أو عطّلتها تكيفًا مع
البيئة، ودون حدوث تغير في التركيب الجيني. ولعل أشهر الأمثلة على ذلك:
وراثة لون العين الأزرق
من أشهر الطفرات التي يدّعيها التطوريون، حدوث
طفرة قديمة في عنصر تنظيمي مجاور مثبط لـجين OCA2، قللت
إنتاج صبغة الميلانين في القزحية، فأدت إلى نشوء صفة لون العين الأزرق لدى البشر.
ودون الخوض في تفاصيل وراثة لون العين، يدّعي
التطوريون أن طفرة تثبيطية حدثت من آلاف السنين أثرت على جين مجاور للجين (OCA2)
المسئول عن لون العين في كروموسوماتنا، وأدت إلى تكوّن تحويلة، مثل زر التشغيل
والإطفاء، تسببت في تقليل إنتاج صبغة الميلانين إلى أقل درجة،
فنتجت العيون الزرقاء. وتم توريث هذا الجين ضعيف النشاط إلى نسبة كبيرة من البشر كجين
متنحي، ومن يتواجد لديه هذا الجين بشكل نقي (من كلا الأبوين) تظهر عليهم صفة اللون
الأزرق في العينين ونسبتهم حوالي 18% من البشر.
""التحويلة" الموجودة في الجين المجاور
لـ OCA2 لا توقف الجين تمامًا، ولكنها تحد من تأثيره على تقليل إنتاج الميلانين
في القزحية - بشكل فعال "تمييع" العيون البنية إلى اللون الأزرق. لذلك فإن
تأثير المفتاح على OCA2 محدد للغاية. إذا تم تدمير الجين OCA2 أو تم إيقاف تشغيله تمامًا، فسيكون البشر بدون الميلانين في شعرهم أو عيونهم
أو لون بشرتهم - وهي حالة تعرف باسم المهق".
“The
"switch," which is located in the gene adjacent to OCA2 does not,
however, turn off the gene entirely, but rather limits its action to reducing
the production of melanin in the iris -- effectively "diluting" brown
eyes to blue. The switch's effect on OCA2 is very specific therefore. If the
OCA2 gene had been completely destroyed or turned off, human beings would be
without melanin in their hair, eyes or skin colour -- a condition known as
albinism.”
http://www.sciencedaily.com/releases/2008/01/080130170343.htm
http://link.springer.com/article/10.1007%2Fs00439-007-0460-x
والحقيقة هي أن هذا التنظيم التعبيري عن الجين OCA2 والذي يتحكم في درجة تنشيطه لإفراز
الميلانين، ويقلل إنتاج ميلانين القزحية فينتج اللون الأزرق، هو نظام موجود في
الجينوم البشري، ولكن لا دليل على أن تنظيم هذا التعبير الجيني مصدره الطفرة، ولا
على اشتراك جميع من لهم صفة لون العين الأزرق في سلف مشترك واحد .
وهنا أجد لديّ بعض التساؤلات
1-هل
صفة لون العين الزرقاء تزيد قدرة الإنسان على البقاء في إطار صراعه من أجل البقاء
الذي ادّعى التطوريون أنه أساس لاستبقاء الصفات بالانتخاب الطبيعي؟!
2-أصبحتم
تدعون وجود طفرات مفيدة حدثت في عمق التاريخ من آلاف السنين، فلماذا لا نرى أمثال
تلك الطفرات المفيدة في حياتنا اليوم؟!
3-ما
الذي يلزمنا بتصديق أن لون العين الأزرق نشأ كتغير في النشاط الجيني استجابة
للبيئة، والذي تعتبرونه طفرة، وأنه لم يكن موجودًا منذ بداية الخلق في الحقيبة
الجينية للنوع البشري كأحد بدائل صفة لون العين البشرية مثله في ذلك كباقي ألوان
العين؟ وهل هذه مقدمة للادعاء بعد ذلك أن صفات لون العين الأخضر والعسلي والرمادي
نشأت أيضًا كطفرات؟ ثم تخبرونا بعد سنوات أن صفة لون البشرة هي الأخرى تعرضت
لطفرات أدت لتنوعها؟ ثم يتعدى الأمر إلى باقي الصفات البشرية؟
وليس لدى التطوريين أي شيء يستدلون به سوى أن
"العيون الزرقاء نشأت عن طفرة لأن كل هؤلاء الأفراد ذوي العيون الزرقاء لهم
سلف مشترك واحد!". ولو سألناهم، ما الدليل على وجود هذا السلف المشترك لهم؟
سيردون بأنه "حدوث الطفرة المُعطِّلة لإنتاج الميلانين في عيون هؤلاء الأفراد
جميعًا!".
فالطفرة المدّعاة صارت دليلًا على السلف المشترك،
والسلف المشترك صار دليلًا على الطفرة! إذًا فالأمر لا يعدو كونه استدلالًا
دائريًا أخرقًا كعادة التطوريين.
وحتى لو سلّمنا بحدوث هذا التغير قديمًا في
التعبير الجيني، فطالما ليس ناشئًا عن تغير في التركيب الجيني فهو ليس الطفرة
بمفهوم التطوريين التي من المفترض أن يُحاجونا بها على إمكانية حدوث الانتواع.
والأمر يصب في علم فوق الوراثة ليس أكثر.
مقاومة البكتريا للمضاد الحيوي
لعل من
أشهر أمثلة التطوريين التي يستدلون بها على حدوث التطور الصغروي، هو نشأة سلالات جديدة
من البكتريا مقاومة للمضادات الحيوية.
والظاهرة
لا يعدو أن يكون لها سببان لا يخدم أي منهما فرضية إمكانية ترقي الأنواع وتخليق معلومات
وراثية جديدة؛ فإما أنه تغير في التعبير الجيني، وتثبيط لجين نشط تكيفًا لظروف البيئة،
دون تغير في بنية الجين، أو إعادة خلط المعلومات الجينية بين سلالتين من البكتريا
نتج عنها سلالة أخرى تختلف وظيفيًا عنهما.
ويمكن
شرح التغير في التعبير الجيني بأن المناطق التنظيمية في جينوم البكتريا قد قامت بتثبيط
عمل الجين الذي يُشفِّر لتكوين أحد البروتينات في البكتريا، والذي كان يتفاعل مع المادة
الفعّالة في المضاد الحيوي، فيسبب موت الخلية البكتيرية. وهذا التعطيل لإنتاج البروتين
في الخلية البكتيرية جعل خلية البكتريا لا تعود تتأثر بالمضاد الحيوي.
فتلك الطفرة
التي يتشدق بها التطوريون للبكتريا التي أصبحت قادرة على مقاومة المضاد الحيوي، مما
اعتبر ميزة لتلك البكتريا لوحظ أنها:
أ-هذه
المنفعة حدثت في البكتريا نتيجة تعطيل ونقص معلومات جينية وليس زيادة معلومات؛ إذ
إن تلك البكتريا أصبحت غير قادرة على إفراز الإنزيم الذي كان يتحد مع المضاد الحيوي.
ولم تُلاحظ أبدًا أي طفرة أدت إلى إضافة معلومات جينية، والمعروف أن الترقي المفترض
من كائن بسيط إلى كائن أعقد يكون بحاجة إلى إضافة وتخليق معلومات في الجينوم.
ب-تتناقص
قدرة أفراد السلالة المطفور ة على الحياة، لأن بطء تخليق البروتينات يقلل قدرة الخلية
البكتيرية على النمو والتكاثر، وهذا يناقض مبدأ البقاء للأصلح لدارون، فمن الواضح
أنه ليس هو الأصلح للحياة، ما يشكك أصلًا في المزاعم بأن هذه الطفرة تعد مفيدة.
وأما
بخصوص الاندماج الجيني فقد لوحظت حالات تحدث فيها استبدال أو منح للجينات أثناء محاولة
أفراد الأنواع البكتيرية التكيف مع البيئة، فهناك بكتريا تستبدل أجزاء من
كروموسومها بأجزاء من كروموسوم بكتريا أخرى، أو تعطي خلية مانحة بلازميدًا يحتوي
جينات إضافية إلى خلية بكتيرية أخرى، ولكن في كلتا الحالتين فهذا الاتحاد الجيني لا
يؤدي لتوليد معلومات جينية وظيفية جديدة، وإنما هو إما مجرد استبدال جينات أو منح
جينات.
ويعزى
هذا الاستبدال أو المنح إلى حدوث شكل بدائي من أشكال التكاثر الجنسي في البكتريا يسمى
"الاقتران" يحدث بين السلالات المختلفة لنوع واحد من البكتريا. وأشهر
مثال عليه ما وجده بعض الباحثين عند مزج سلالتين مختلفتين من بكتريا القولون في مزرعة
بكتيرية واحدة فظهرت سلالة جديدة تختلف وظيفيًا عن السلالتين الأبويتين، ولم يتولد
نوع جديد فلا زالت بكتريا فلم تصبح طحلبًا مثلًا.
ولنا مزيد من الشرح عن مقاومة البكتريا للمضاد
الحيوي، ومزيد من الردود عما يدعيه التطوريون من أدلة، تجدونها في مقال "التطور الصغروي".
خاتمة
بينما يرى المؤمنون أن قدرة النوع الحي على
الملاءمة والتكيف هي دليل على التصميم الذكي، يستدل التطوريون بالقدرة على التكيف
على إمكانية حدوث طفرات مفيدة للنوع تستمر في التراكم حتى ينشأ نوع جديد؛ ذلك أنهم
يُصرّون على أن إظهار أي نوع للتأقلم مع بيئته –قديمًا وحديثًا- قد نتج عن تطفر
وليس لتبديلات وتنويعات في التعبير الجيني أو تبادل جيني بفعل التكاثر، ويضربون
عرض الحائط بنتائج العلم الحديث في ذلك المضمار.
والحقيقة أنه بالفعل لو ثبت حدوث تغير في تركيب الجينات ناشئ عن تخلق، وقابل
للتوريث، ولم تكن المعلومات الجينية الأوّلية له موجودة في الحقيبة الوراثية للنوع
أو أخذت من نوع آخر، فإن ذلك سيكون له قيمة كبيرة بالنسبة للتطوريين، وهو ما يحاول
التطوريون إثباته في العقود الأخيرة، خاصة بعد الضربات الموجعة التي تلّقوها من
علوم البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية والوراثة وفوق الوراثة، ولكن كل
جهودهم باءت بالفشل.
وأخيرًا -ومع تحفظي على المصطلح من الأساس- أقول إنه طالما تم التأكد من أن كل ما اعتُبر سابقًا طفرات مفيدة تغير التركيب الجيني للأنواع الحية، تحدث استجابةً لظروف البيئة، ليس لها علاقة بتخليق جينات جديدة، ألم يحن الوقت لتكهين مصطلح التطور الصغروي، وإعادة استخدام مصطلح التكيف البيئي؟